ويعجبني من هذا الباب قول شرف السادة أبي الحسن البلخي:
أفدي بروحي من قلبي كوجنته ... في الوصف لا الحكم فالأحكام تفترق
أعجب لحرقة قلب ما له لهب ... ومن تلهب خد ليس يحترق
ومما انعقد الإجماع على حسنه من الأسماع، قول تميم بن مفرج الطائي، من خمرية له أولها:
قم واسقني قبل الصباح المسفر ... يوم الخميس على طلوع المشتري
وإذا لقيت الجمعة الزهراء فل ... يكن الغبوق على جبين أزهر
واستقبل اليوم السعيد بمقبل ... طلق وأدبر عن عذول مدبر
إن قيل أن الراح حرم شربها ... عن أهل دين محمد فتنصر
(عن) هنا بمعنى (على) وهما يتعاقبان، قال الله تعالى: (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) .
قوله المشار إليه في هذا النوع هو:
قل للغزالة وهي غير غزالة ... والجؤذر النعسان غير الجؤذر
لمذكر الخطوات غير مؤنث ... ومؤنث الخلوات غير مذكر
قال في دمية القصر: هذا بيت شعر يساوي بيت تبر، وفيه قلب يقبله كل قلب. ثم الموازنة بين الخطوات والخلوات في نهاية الحلاوة.
ومقول القول قوله بعده:
قومي إلى الشيء الذي بتنا به ... بالأمس بذاك الجوهر
وتسربلي قبل القيام وأسبلي ... ذاك العذار الجون ثم تزنري
فتنبهت هيفاء غير بطيئة ... عما التمست ولا سحوب المئزر
يعني أنها تشمرت للخدمة، فقلصت أذيالها، لا كالكسلان الذي يزود الأرض فضلة ردائه، إما لكسله، وإما لخيلائه.
وبعده:
تفتر عن برد وتنظم مثله ... عقدا وتنظر عن جفون فتر
وتيممت دنين في مطمورة ... كانا معا فيما أظن لقيصر
فتحتهما فكأنما فتحتهما ... عن لون ياقوت ونكهة عنبر
ومن المستطرف هنا إلى الغاية، قول شيخ الشيوخ بحماة، وهو لسان الحال، حال تأليف هذا الكتاب:
أفنيت عمري في دهر مكاسبه ... تطيع أهواءنا فيه وتعصينا
تسعا وعشرين مد الهم شقتها ... حتى توهمتها عشرا وتسعينا
وللشيخ صلاح الدين الصفدي:
قد فاق غصن النقا حبيبي ... وأخجل البدر في التمام
فذا قوام بلا محيا ... وذا محيا بلا قوام
وأنشد الشيخ سعد الدين التفتازاني لنفسه في شرح التلخيص عند الكلام على هذا النوع:
طويت بإحراز الفنون تجشما ... رداء شبابي والجنون فنون
فحين تعاطيت الفنون وخطها ... تبين لي أن الفنون جنون
وقال الشيخ صفي الدين الحلي:
لا تحقرن المال فالعين للإنسان كالإنسان للعين
وقال أيضاً:
عين النضار كناظر العين الذي ... يتأمل القاصي به والداني
ولرب إنسان بلا عين غدا ... وكأنه عين بلا إنسان
وقال أيضاً ناظما قول الحكيم المقدم ذكره:
إذا الجد لم يك لي مسعدا ... فما حركاتي إلا سكون
إذا لم يكن ما يريد الفتى ... على رغمه فليرد ما يكون
وقال آخر:
معشوقتي جارية ساقية ... ونزهتي ساقية جاريه
جارية أعينها جنة ... وجنة أعينها جاريه
وهذان البيتان حسنان لو سلما من الإيطاء في القافية.
وقلت أنا من قصيدة:
أجلواها والدهر طلق المحيا ... والقماري تنادم الأقمارا
في عذارى كأنهن رياض ... ورياض كأنهن عذارى
والشعر في هذا النوع كثير جدا، والاقتصار على هذه الجملة منه فيها مقنع.
وأما العكس المعنوي فهو من مستخرجات ابن أبي الإصبع، وحده بأن قال: هو أن يأتي الشاعر إلى معنى لغيره، أو لنفسه فيعكسه.
فمثال عكس الشاعر معنى غيره، قول علي بن الجهم يصف السحاب:
فمرت تفوت الطرف حتى كأنها ... جنود عبيد الله ولت بنودها
فات عكس فيه قول أبي العتاهية يصف الرايات:
ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب
وقول الآخر:
وربما فات بعض الناس أمرهم ... مع التأني وكان الحزم لو عجلوا
عكس فيه قول الأخطل:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وعكس الصابي قول البحتري في الوداع:
أقول له عند توديعه ... وكل بعبرته ملبس
لئن قعدت عنك أجسادنا ... لقد سافرت معك الأنفس
فقال الصابي ونبه على ذلك: