وقيل لمريض كيف أنت؟ فقال: أجد ما لا اشتهي، وأشتهي ما لا أجد، وأنا في زمان سوء، من وجد لم يجد، ومن جاد لم يجد.
وقال الأضبط:
ويجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
ويقطع الثوب غير لابسه ... يلبس الثوب غير من قطعه
ويروى لهارون الرشيد:
لساني كتوم لأسرارهم ... ودمعي بسري نموم مذيع
فلولا دموعي كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم يكن لي دموع
وأولع الشعراء بهذا المعنى فقال بعضهم:
لعمري لعمري بكم عامر ... ولا أشتهي العمر لولاكم
فلولاكم ما عرفنا الهوى ... ولولا الهوى ما عرفناكم
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
مسألة الدور جرت ... بيني وبين من أحب
لولا مشيبي ما جفا ... لولا جفاه لم أشب
وللشيخ نجيب الدين الشامي:
علة شيبي قبل إبانه ... هجر حبيبي في المقال الصحيح
ويدعي العلة في هجره ... شيبي ففي القولين دور صريح
وقال آخر:
مسائل دور شيب رأسي وهجرها ... وكل غدا عما به في الهوى ينبي
فأقسم لولا الهجر ما شاب مفرقي ... وتقسم لولا الشيب ما كرهت قربي
وما أحسن قول شمس الدين محمد بن التلمساني في هذا النوع:
يا بأبي معاطف وأعين ... يصول منها رامح ونابل
فهذه ذوابل نواضر ... وهذه نواظر ذوابل
غير أن النواضر الأولى بالظاد المعجمة لأنها من النضرة وهي النعمة، والنواظر الثانية بالظاء المشالة لأنها من النظر وهو البصر، ومثل ذلك مغتفر في مثل هذا المقام.
وقول المطوعي:
ألست ترى أطباق ورد وحولها ... من النرجس الغض الطري ورود
فتلك خدود ما عليهن أعين ... وتلك عيون ما لهن خدود
ومن بديع هذا النوع ما أنشده أبو منصور الثعالبي في اليتيمة لصاحب ابن عباد في وصف الزجاج والشراب:
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وكثير من ينسب هذين البيتين لأبي نواس، ولم أجدهما في ديوانه.
ولأبي الطيب المتنبي في هذا النوع:
فلا مجد في الدنيا لمن قل مال ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
فما ترزق الأيام من أنت حارم ... ولا تحرم الأقدار من أنت رازق
إذا حقدت لم يبق في قلبها رضى ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
وقال ابن نباتة السعدي:
ألا فاخش ما يرجى وجدك هابط ... ولا تخش ما يخشى وجدك رافع
فلا نافع إلا مع النحس ضائر ... ولا ضائر إلا مع السد نافع
وقال آخر وأجاد. وغلط ابن حجة في نسبته إلى المتنبي:
إن الليالي للأنام مناهل ... تطوى وتنشر دونها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار
وقال آخر:
النفس ملأى من المعالي ... والكيس صفر الجناب خالي
فليس مالي كمثل فضلي وليس فضلي كمثل مالي
ومن الطريف النادر في هذا الباب قول أبي الحسن الباخرزي من قصيدة بديعة في السيّد ذي المجدين أبي القاسم علي بن موسى الموسوي:
معاد معاديه مهما طوى ... على بغضه القلب قعر الطوي
وأمثل أحوال أعدائه ... وكلهم نهب داء دوي
عصي مكللة بالرؤوس ... وروس مكللة بالعصي
قال في الدمية: أنشدت هذه القصيدة الممدوح بها بحضرة أبي منصور محمد بن عبد الجبار السمعاني والمجلس غاص بالعام والخاص، فلما انتهيت فيها إلى قولي هذا صفق القاضي أبو منصور بيديه وقال: عين الله عليه، وأثنى علي في ذلك المجلس الغصان، بمثل ما أثنى به حسان على آل غسان.
ومن مستجاده قول القاضي أبي الفتح نصر بن سيار الهروي يصف نار السذق، وهو بفتح السين المهملة والذال المعجمة وبعدهما قاف، ليلة الوقود، فارسي معرب:
رب ليل كشعر ليلى ... سوادا
شق جلبابها عن الأرض نار
وترى الأرض كالسماء فكل ... قد تجلى خلالها أنوار
وشرار كأنهن نجوم ... ونجوم كأنهن شرار
وما ألطف قوله أيضاً في هذا المعنى، وإن لم يكن مما نحن فيه:
وليلة سامحتني ... بها نوائب دهري
بتنا نحث زجاجا ... ما بين خمر وجمر
فتلك ذائب جمر ... وذاك جامد خمر