٦- أبو هفان قال: حدثني عبد الله بن يعقوب بن داود بن المهدي قال: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة فجاء ابن مناذر وكانا مجاورين جميعا فتحدثا ساعة، ثم قال سفيان: ظريفكم هذا أشعر الناس. قال: كأنك عنيت أبا نواس؛ قال: نعم. قال وفيم استظرفته؟ قال: في جميع شعره وفي هذه الأبيات خاصة:
يا رشأ أبصرت في مأتم ... يندب شجوا بين أتراب
أبرزه المأتم لي كارها ... برغم دايات وحجاب
يبكي فيذري الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب
لا زال موتا دأب أحبابه ... حتى أراه أبدا دابي
فقلت لا تبك قتيلا مضى ... وابك قتيلا لك بالباب
٧- أبو هفان قال: حدثني يوسف ابن الداية قال: كان محمد الأمين مستهترا بأبي نواس لا يصبر عنه ساعة ينشط للشرب، وكان يطلبه بعض الأحيان فلا يكاد يوجد، فتابع الأمين الشراب عدة أيام وأرسل من يستنبطه ويبحث الحانات ويطلبه في مظانه فلم يقدر عليه، فغضب غضبا شديدا، وكان بعض ندمائه يحسد أبا نواس على موضعه من الأمين، فوجد مساغا للقول وموضعا للكلام فسبه وتنقصه وقال: يا أمير المؤمنين هذا عيار شارب شواظ ينادم السفلة والسوقة وينتاب الحانات ويركب الفواحش، يرى ذلك غنما وإن في منادمته تشنعة على أمير المؤمنين، فلما أكثر في ذلك قال له محمد: ألغ هذا الكلام عنك فوالله ما ينبغي أن يكون نديم خليفة إلا مثله في أدبه وظرفه وعلمه وكمال خصاله، وما غضبي عليه إلا تأسفا على ما يفوتني منه. فلم تزل الرسل تتطلبه وتبحث عنه حتى وجدوه في عدة من أصحابه في حانة خمار يهودي، فجيء به إلى الأمين وقالوا: يا أمير المؤمنين، أخبرنا اليهودي أنه مقيم عنده في الحانة منذ شهر لا يفيق من السكر هو وأصحابه ساعة. فغضب الأمين وقال: لهممت أن أضرب عنقك. ثم حلف أنه إن شرب في حانة بعد هذه مع احد من الناس ليقتلنه وليضعن عليه الأبصار والعيون، ثم قال له: اخرج الآن إذا شئت واشرب. فخرج من عنده على هذه الحال ولم ينادمه، وصح عزم أبي نواس على ترك منادمة الناس والشراب في الحانات خوفا على نفسه وإشفاقا عليها. وجفاه الأمين وأطرحه مدّة ولم يسأل عنه حتى أصبح يوما فلما شرب ثلاثة أرطال وطابت نفسه وارتاحت ذكر أبا نواس وظرفه وطيب محادثته، وأن عنده في كل شيء نادرة، فأمر بإحضاره، فلما دخل عليه شكا عظم ما ناله من غضبه وإبعاده وسأله الصفح عنه واغتفار هفوته، فأمر فخلع عليه وأقعد في مجلسه الذي كان يقعد فيه لمنادمته ثم قال له الأمين: هيه، في منزل يهودي منتن أذفر متكئا على عد مزفت شهرا وأنا أطلبك بكل مكان فلا أقدر عليك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، من تمام العفو ألا يذكر الذنب، قال: فأنشدني ما قلت في مقامك هناك فأنشده:
وفتيان صدق قد صرفت مطيهم ... إلى بيت خمار نزلنا به ظهرا
فلما حكى الزنار أن ليس مسلما ... ظننا به خيرا فصيره شرا
فقلنا: على دين المسيح بن مريم ... فأعرض مزورا وقال لنا كفرا
ولكن يهودي بحبك ظاهرا ... ويضمر في المكنون منه لك الخترا
فقلان له ما الاسم؟ قال سموأل ... على أنني أكنى بعمر ولا عمرا
وما شرفتني كنية عربية ... ولا أكسبتني لا سناء ولا فخرا
ولكنها خفت وقلت حروفها ... وليست كأخرى إنما خلقت وقرا
فقلنا له ... عجبا بظرف لسانه
أجدت أبا عمرو فجود لنا الخمرا
فأدبر كالمزور يقسم طرفه ... لأوجهنا شطرا وأرجلنا شطرا
وقال لعمري لو أحطتم بعلمنا ... للمناكمو لكن سنوسعكم عذرا
فجاء بها زيتية ذهبية ... فلم نستطع دون السجود لها صبرا
خرجنا على أن المقام ثلاثة ... فطاب لنا حتى أقمنا بها شهرا
عصابة سوء لا ترى الدهر مثلهم ... وإن كنت منهم لا بريئا ولا صفرا
إذا ما أتى وقت الصلاة تراهموا ... يحثونها حتى تفوتهم سكرا
فاستحسنها الأمين وقال: يا غلام. اسق القوم ولا تسق أبا نواس، قال: يا أمير المؤمنين ولم؟ قال: لأنك تصف الغلام إذا ناولك الكأس بأنه قد سقاك كأسين كأسا بعينه وكأسا بيده وتذكر أنك جمشته فهات الآن ما عسى أن تقول إذا لم يسقك فأنشد:
أعاذل أعتبت الإمام وأعتبا ... وأعربت عما في الضمير وأعربا