وإن الصيغة المنطقية المحكمة "والداء قبل الدواء"لم تطلع علينا بسبرٍ لمدى التأثير كما يبدو مداه في شعر لجرير:
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا [٣٩]
إن العيون التي في طرفها حور
وهن أضعف خلق الله إنسانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وعلى ما في تقرير بشار "والداء قبل الدواء"من المعقولية المنطقية فإن المبالغة في قول جرير تبعث على استمتاع مريح، واسترسال وجداني مستعذب، نفتقد مثله في بيتي بشار. أهي العاهة التي تعوق الشاعر الأعمى عن الصورة الخارجية؟
ما ذاك ببعيد إذ نفتقد - لفقدانه الرؤية - الصور البصرية التي تنم عن تأثر حق. وكان يغطي على تصويره للمرئيات بصور ذات عموم غير محدود أو إجمال لا تفصيل له، كما يغطي على ذلك تصويره للمسموعات كقوله:
كأن حديثها ثمر الجنان [٤٠]
ودعجاء المحاجر من معدّ
وقوله في صوت مغنية:
محاسنها من روضة ويفاع [٤١]
كأنهم في جنة قد تلاحقت
وكان يركب عناصر الصورة المادية تركيباً ذهنياً خيالياً من غير انطباع حسي:
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه [٤٢]
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وعبثا نحاول استخراج صورة لأم العلاء من (٢٢) بيتاً أو أن نجمعها من جزئيات متفرقة. فقد غابت الجزئيات أيضاً. وما كان الغزل إلا دعوى وله معروضة في مواقف قصصية متلاحقة هي:
١ - أيام الوصال والوفاق (٣ - ٧) .
٢ - الوشاية والجفوة (٨) .
٣ - الاعتذار والوساطة (٩ - ١٨) .
٤ - مؤايستها له من الوصال (١٩ - ٢١) .
٥ - تسليه عنها بالطرب (٢٢) .
أليس الغزل في مجموع مواقفه قصة مكرورة تبدأ بالحنين إلى الماضي ومحاولة استعادة الوصال، فالإخفاق، فاليأس والانصراف؟