للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولكن الاستقراء الدقيق، ولاسيما قصائد العصر الأموي، لا تأذن بإصدار حكم له صفة الشمول، وكثيراً ما نجد أنفسنا لدى نماذج متفاوتة وفي بعضها لا يفارق الشاعر التصميم الجاهلي لقصيدة المدح من الوقوف على الأطلال ومساءلتها، واجتياب الفلاة على الناقة الوجناء، والتغزل بالمرأة، حتى ليخيل إلينا في بعض القصائد أن هذه المقدمة التقليدية أولى من الغرض الأول فيها، وهو المدح، ومن أمثلتها قصيدة القطامي اللامية:

وإن بليت وإن طالت بك الطول

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل

إذ هي "٤٣"بيتاً لا يشغل المدح غير العشرة الأخيرة منها [٣٦] .

ولكن المقدمة في قصيدة بشار هذه ليس فيها من حديث الديار أثارة، فهي تنتمي إلى بردة كعب بن زهير. والشاعر ينصرف عن الوصف المادي الذي كان لا يفوت السابقين، من تعدادٍ لمفاتن حسيَّة كانت تُعدّ في ذلك اليوم المثلَ الجمالي الأعلى، ينصرف إلا قليلاً في المطلع إذ يذكر حور عينيها ولكنه يُعوّل على الأثر متجاوزًا في تصويره عن المؤثِّر:

واحذرا طرف عينها الحوراء

١ - حيّيا صاحبيّ أمّ العلاء

لملمّ والداء قبل الدواء

٢ - إن في عينها دواء وداء

إنه الإِغراء متنكر في هيئة تحذير، إن ينجح بإثارة الفضول لدينا فلن يُعْقِبَ قناعةً لأنه فضول غير مدعوم بدليل مادي يجعل النظر مخشيًا حقاً مثل الدليل المادي في قول امرئ القيس:

بسهميك في أعشار قلب مُقتَّل [٣٧]

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي

وما ذاك إلا لأن بشاراً تنقصه خبرة امرئ القيس بخفايا المقاصد وبواعث السلوك، فغزله غزل الفن، غزل الحقائق المتقابلة في الفكر لا غزل الوقائع والصراع.

وكان النابغة أقدر على الإِيحاء بالأثر من خلال الصورة المادية للمؤثر:

أحوى أحم المقلتين مقلدّ

نظرت بمقلة شادن متربّبٍ

نظر السقيم إلى وجو العوّد [٣٨]

نظرت إليك بحاجة لم تقضها