للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويتردد الاقتران في معلقة عنترة في كل بيت تذكر فيها الدار بل لا تذكر الدار إلا بالمرأة. ولولا اضطراب المعلقة ترتيباً لكانت الأبيات التي تصلح أن تكون مجموعة متوالية من مقدمة نسيب مثالاً حسناً لضآلة العنصر المكاني بجانب العنصر الإنساني أو العاطفي. فإذا قورنت هذه النماذج بمطلع معلقة امرئ القيس وببعض قصائده رأينا المكانية تنساح في بيتين أو ثلاثةٍ متواليات انسياحاً يغمر النبض الوجداني أو الإشعاع بالحياة.

وفي مطلع العصر الإسلامي نجد شاعراً مخضرماً، أعرق نظماً في الجاهلية منه في الإسلام، يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقصيدة مدح ظلت تتمتع بنموذجية فذة على مدى العصور، هو كعب بن زهير صاحب البردة، وفيها نجد الشاعر أحلَّ مقدمة غزلية خالصة مكان المقدمة الطللية أو المزيجة، شغلت (١٤) بيتاً من (٥٨) بيتاً.

فلمَ أقدم على هذا التعديل وهو يُعِدُّ قصيدة يود لو تفوق كل شعر ليظفر بالصفح والحياة؟ لا شك أنّ بعض الشعراء - كعلقمة الفحل - لهم مطالع غزلية خالصة، ولكن قصيدة المدح لها صباغ رسمي - دعك عن المناسبة الحساسة - كما أن كعبًا هو عماد في مدرسة الصنعة والتحكيك التي لا تهمل المراسم المفضَّلة؟.

هل وجد كعب الغزل الصرف أحسن وقعاً عند من يحيا متحضراً؟ وهل أحسَّ أنَّ الأطلال ظل من الصحراء لا يستهوي الأنفس ولا تقبل عليه الأسماع إقبالها على الغزل؟

لا نستطيع أن نجزم قاطعين، ولكن الغزل يشهد - إذا قورن بأقسام القصيدة - لصاحبه أن قد توخى فيه الرقة والقرب، وجاهد أعرابيته على ذلك.

فإن كان في هذا دليل مرجِّح جاز لنا أن نلاحظ أن مراعاة ميول الجمهور وأذواقهم، للتأثير فيهم، بدأ يؤثر في مضمون المقدمة مادامت مادة المقدمة تسمح بالتعديل أما إذا كانت المادة صحراوية طبيعةً وجبلّةً - مثل وصف الناقة - فلا سبيل للمواءمة والتعديل [٣٥] .