واستقراء تام ومسح كامل لأمثال هذه المقدمات يهب لنا فائدة لا يستغني عنها النقد والتقويم، وهي أن هذه المقدمات إن تكن تقليداً متبعاً فإن فيما بينها تفاوتاً ذاتياً وفنياً ملحوظاً تُرَّدُ أسبابه إمَّا إلى النموذج النفسي، أو الوضع النفسي للشاعر وتركيب ميوله واتجاهاته، وإما إلى طابع العصر واتجاهه الفني الغالب، وإن يكن من الصعب الفصل ما بين العاملين بخطوط قاطعة تُرجح تغليب أحدهما على الآخر في إيثار إحدى الصورتين، الغزلية أو الطللية، على الأخرى، فإن هذه المقدمات في نهاية التحليل هي نتاج هذين العاملين معا. ويقودنا الاستقراء إلى تقرير حقيقة تشفع لها موضوعية أكيدة هي أن الصبغة الفنية الغالبة كانت تجنح في أواخر العصر الجاهلي إلى مزج متكافئ ما بين المرأة والطلل أو اقتران متين يكشف عن ترجيح العنصر الإنساني أو الذاتي على الجوامد المادية. وفي معلقة زهير بن أبي سلمى مثال موافق يقرن أسماء الأمكنة باسم المرأة قرانا يدل على ارتباط لا يقبل الانفصام وأن الدار إنما تذكر بصاحبتها:
بحومانة الدراج فالمتثلم
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
مراجع وشم في نواشر معصم [٣٣]
فدار لها بالرقمتين كأنها
حتى إن صورة هذه الدار تنعكس لعينيه في مرآة من معصم موشوم، ومن ثم يرفع بصره وشيكًا باحثاً عن الحياة والأحياء من العين والآرام والظعائن.
ويظهر هذا التأليف المنسق بين الطلل والمرأة وشظف الصحراء معاً في لامية الأعشى:
وسؤالي وما ترد سؤالي [٣٤]
ما بكاء الكبير في الأطلال
فللأطلال بيتان وللمحبوبة وما يفصل بينهما من نائي المكان خمسة عشر بيتاً.