يقول ابن القيم:"فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة، وهي قطرة من ماء مهين ضعيف لو مرت بها ساعة أي لحظة من الزمان فسدت وأنتنت، كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها، واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها ...
وكيف قدر اجتماع ذينك المائين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارا مكينا، لا يناله هواء يفسده ولا برد يجمده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه، ثم قلب تلك النطفة البيضاء إلى علقة حمراء مباينة للنطفة، ثم جعلها مضغة لحم، مباينة للعلقة في شكلها ولونها وحقيقتها، ثم تحويل تلك المضغة عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة كل المباينة في الشكل والهيئة، والقدر والملمس، ثم كيف قسمت تلك النطفة الحمراء إلى تلك الأجزاء المتشابهة، وبالمقدار المناسب لكل عضو، ثم اتجاه كل جزء أو خلية إلى مكانها المناسب في وقتها وأوانها وعلى حسب الحاجة إليها، فمنها ما يتجه لإنشاء العظام كل في محله، وعلى قدره الذي قدر أن يكون عليه، فمنها الصغير، والكبير، والطويل، والقصير، والمنحني، والمستدير، والعريض، والمصمت، والمجوف، فهي مختلفة الأشكال والأحجام، وذلك حسب اختلاف المنافع المنوطة بها، ثم شد تلك العظام وربط بعضها ببعض برباط قوي محكم بحيث لا يسقط عضو من آخر" [٢٢]{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ}(الإنسان /٢٨) .