عن الإحاطة بغيره، يحجب سمعه الجدار، وتحجب رؤيته الأستار، ويحجب إدراكه للأمور على تمامها ما غاب عنه من تفاصيلها ومجرياتها ونتائجها.
أمَّا إدراكه للسر الخفي في ضمير نفسه أو ضمائر غيره، من خطرات القلوب، وأحاديث النفوس فهو أعجز عنه، فضلًا عن عجزه الكامل عن إدراك ما سوف يحدث في المستقبل من حوادث ونوازل وخطرات وحركات.
وللإنسان ملك، ولكنه ملك محدود مسلوب، أتاه بعد أن لم يكن في يديه، وذاهب عنه بعد أن استولى عليه، وهو في حال امتلاكه لا يستطيع أن يمنع عنه كل الآفات، ولا أن يحفظه من كل البليات، بل قد يملك ما فيه ضرره، ويترك ما فيه خيره وصلاحه، وقد يتمسك بما فيه هلاكه وهو لا يدري، ويفرط في ما فيه نجاته وهو لا يعلم.
ولا يستطيع الإنسان مهما أوتي من قوة وإدراك أن يدفع عن نفسه -فضلًا عن غيره- ورادات الهموم والغموم، بل لا يستطيع أن يكشف كربة نفسه أو يجبر كسرها، أو يغني نفسه من الفقر إلَّا بإرادة اللَّه -جلَّ وعلا-، وكذلك أفعاله الأخرى في الهداية من الضلالة وإرشاد الحائر وإغاثة اللهفان وفك العاني وإشباع الجائع، وكسوة العاري، وشفاء المريض، وغير ذلك، فإنه لا يقدر على هذه الأفعال إلَّا بمشيئة اللَّه -عزَّ وجلَّ-، بل قد يريد فعل لشيء من ذلك فينعكس عليه الأمر، ويضطرب عليه الحال، وتنقلب الأمور رأسًا على عقب، فلا يعلم لم حصل ذلك كما أنه لا يقدر على دفع ذلك؛ لاستيلاء العجز عليه، ولمحدوديته الكاملة، وبشريته العاجزة.
والإنسان مع عقله وإدراكه، يفقد ذلك كل يوم بالنوم، ويفقد أحيانًا بالإغماء أو بالجنون أو بغير ذلك من العوارض، فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه أثر هذه الأمور، بل هو يطلب النوم ويحتاجه، وتدركه السنة ويغلبه الوسن، ولا يقدر على دفع ذلك كما لا يستطيع دفع الضعف والخرف في العقل إذا كبرت به السن وتطاول به العمر.
والإنسان مع عقله وإدراكه تغلبه على عقله -أحيانًا- الشهوة،