للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والإماتة وتقليب الأيام وتداول الدول وتصاريف القدر فليس للإنسان في ذلك قدرة، وإن كان آلة وسببًا في بعض الأحيان.

نعم للإنسان إرادة واختيار، ولكن ليست كل مراداته تنفذ، وليس كل اختياره يقع، بل قد يريد شيئًا ويصبح ضرًا علييه، ويختار شيئًا فينقلب شرًا عليه، فما كل ما يشاؤه الإنسان كائن لا في الوقت ولا على الوجه الذي يشاء، بل المشاهد أنه إن وقع فإنه يقع زائدًا أو ناقصًا أو متقدمًا أو متأخرًا.

وللإنسان أمر وسلطان -بحسبه- ولكن سلطانه -لو كان له سلطان الأرض كلها- سلطان ناقص وأمره محدود غير نافذ، يحده الاضطرار، وينقصه من شاء إذا استطاع، ثم سلطانه ليس شاملًا لكل شيء فقد يحكم أرضًا وفيها من يقاومه ويحاربه ويغالبه، وله سلطان على مكان، وخلف جدار ذلك المكان يحدث ما لا علم له به وما لا قدرة له على دفعه.

وللإنسان عقل وإدراك ولكنه محدود بحدود الطبيعة البشرية المخلوقة، فقد كان بلا عقل عندما خلق في الرحم ثم نزل إلى الأرض، ثم بدأ يميز قليلًا قليلًا ويزداد من المعارف والمعلومات شيئًا بعد شيء، ويتنقل في سلم المعارف لحظة بعد أخرى حتى يدرك، ويعقل ثم حتى يبلغ أشده إلى أن يشيخ وهو في كل ذلك -وإن أوتي أكبر عقول أهل الدنيا- تشتبه عليه الأمور، وتتغير عنده الآراء، وتنتقض عنده العزائم، وتختلط عليه القضايا، وتضطرب عنده الموازين، هذا كله في الأمور التي يدركها بعقله، وهي ولو كثرت ليست سوى قطرة صغيرة من محيطات المعلومات والآراء والقضايا، فهو مع عجزه التام عن الإحاطة بكل المعلومات والمدركات، هو عاجز أيضًا عن الإحاطة بكل تفصيلات ما وصل إلى علمه وإدراكه، بل في تناقض رأيه، وانتقاض عزمه، وتبدل وجهته، وأسف نفسه على فعل ما فعل أو ترك ما ترك دليل على محدودية عقله وانحصار إدراكه.

ولو كان الإنسان أذكى أذكياء الدنيا فإنه يشغله رأي عن رأي وسمع عن سمع ورؤية عن رؤية، وتغلطه المتشابهات من الآراء والمسموعات والمرئيات، ويشغله بعضها عن بعض، لا يستطيع الإحاطة بنفسه علمًا فضلًا

<<  <  ج: ص:  >  >>