فقال عمر: والله، إن تأخر الغلام، لأمضين في أبي ذرّ، ما اقتضته شريعة الإسلام.
فهمت عبرات الناظرين إليه، وعلت زفرات الحاضرين عليه، وعظم الضجيج وتزايد النشيج، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الأثنية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول.
فبينما الناس يموجون تلهفاً لما مر، ويضجون تأسفاً على أبي ذرّ إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم السلام ووجهه يتهلل مشرقاً ويتكلل عرقاً وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخواله، وعرفتهم بخفي أمواله وأطلعتهم على مكان ماله. ثم اقتحمت هاجرات الحر، ووفيت وفاء الحر.
فعجب الناس من صدقه ووفائه، وإقدامه على الموت واجترائه.
فقال: من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن وفى، رحمه الطالب وعفا، وتحققت أن الموت إذا حضر، لم ينج منه احتراس، كيلا يقال: ذهب الوفاء من الناس.
فقال أبو ذَرّ: والله، يا أمير المؤمنين، لقد ضمنت هذا الغلام، ولم أعرفه من أي قوم، ولا رأيته قبل ذلك اليوم. ولكن نظر إلي دون من حضر فقصدني وقال: هذا يضمنني، فلم أستحسن رده، وأبت المروءة أن تخيب قصده، إذ ليس في إجابة القاصد من بأس، كيلا يقال: ذهب الفضل من الناس.
فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين، قد وهبنا هذا الغلام دم أبينا، فبدل وحشته بإيناس، كيلا يقال: ذهب المعروف من الناس.
فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه، واستفزر مروءة أبي ذرّ دون جلسائه، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما أحسن ثنائه. وتمثل بهذا البيت:
من يصنع الخير لم يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
ثم عرض عليهما أن يصرف من بيت المال دية أبيهما. فقالا: إنما عفونا ابتغاء وجه ربنا الكريم، ومن نيته هكذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى.