وكان عنده يحيى بن أكثم، فقال لها: ياحمنة، قد أجبتك إلى ما سألتني، ولكن لا ينفعني ولا يهناك ذلك إلا بمشهد من يحيى بن أكثم، فإنه لا يطيب لي مجلس إلا به.
فقالت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم ضربت يدها في جيبها، فأخرجت منه مخزنة من ذهب أحمر محشوة مسكاً أذفر، فدفعتها إلى يحيى، وقالت: يا يحيى، إن الأجير لا يعمل حتى يستوفي أجرته، وهذه أجرتك مني فكن مستحثاً لي أمير المؤمنين غداً عند الزوال، في المسير إلى منزل خادمته؟ فقال: حباً وكرامةً.
ثم خرجت من عنده فهيأت ما تحتاج إليه للمأمون وغيره، فلما كان من الغد جلس المأمون في مجلس السلام، فلما زالت الشمس وصارت في كبد السماء قال يحيى: يا أمير المؤمنين الحاجة التي عرضت عليك بالأمس. ففطن المأمون لذلك، وقام من مجلسه ولبس ثياب التجار، ولبس يحيى مثل ذلك، ودعا بحمارين مصريين بغاشيتين، وركباهما حتى أتيا دار حمنة، فدقا الباب دقاً خفيفاً، فسمعته فأقبلت بنفسها، حتى فتحت الباب وأقبلا يمشيان جميعاً حتى انتهيا إلى بيت في بستان قد حمل على أربعة أعمدة من الرخام الأحمر المنقوش، وإذا في صدر البيت أربعة أسطر منقوشة بالدر وصنوف الجواهر وهي:
ما سرني أن فؤادي، ولا ... أن لساني بالمدام حلا
؟ وأن لي ملك بني هاشمٍ يجبى إلى أولاً أولا
إن لم أشاهدك أيا مالكي ... تأتي إلى بيتي كذا مقبلا
يا سائلي روحي بلا علةٍ ... أنت المعافى، وأنا المبتلي
فقال المأمون: يا يحيى، ما ملك أحد من الخلفاء مثل هذا البيت.
وإذا فرشه أرمني محفور منقوش باللآلي وإذا فوق الأرمني مطارح من الديباج الأخضر حشوها حواصل الريش، وفي البيت المسك والعنبر والكافور والصندل والزعفران والند والعود مصفوف في أواني الذهب والفضة، وهي تفوح منه روائح لا يدرى ما هي من طيبها، ثم أخرجتهما إلى أربعة ميادين فيها أنواع الرياحين حول البيت، فقالا: إن هذا إلا سحر يؤثر.
ثم دعت لهما بمائدة من الجزع اليماني قوائمها من قطعة واحدة، فوضت وقدمت عليها الألوان الغريبة، فقال المأمون: ما طعمت مثل هذا الطعام قط.
ثم دعت بالطشت والإبريق فغسلا أيديهما، ثم أمرت بشراب فقدمت إليهما قناني الزجاج الشامية المرتفعة الصافية، والبلور، فيها شراب قد أتت عليه الأيام والأعوام،