على أنه كان لفكري ألف فرصة يهرب بها من ذلك العذاب. فقسنطينة قدمت لي كل شيء؛ كنت أتنزه مع رفاقي في (رامبليه Ramblais) في هذا المكان الذي أقيم فيه فيما بعد، أول مدينة من أكواخ التنك في قسنطينة، كان نوعاً من السوق الدائم تباع فيه الأشياء القديمة غير الصالحة للاستعمال من مفاتيح قديمة وملابس مستعملة وأشياء أخرى.
كنا نختلط بتلك الجماعة المؤلفة من مزارعين فقدوا صنعتهم، فلم يعد لهم مكان في حقولهم بعد أن طردهم الاستعمار واستولى على أراضيهم، ثم إن المدينة لم تؤوهم بعد فيها. كان يندس في صفوفهم عدد لا بأس به من النشالين. وفي يوم كنت بين ذلك الجمع واقفاً أمام آلة لليانصيب توزع جوائز متنوعة من الأشياء المستعملة، فقدت محفظتي وفيها ثلاثون فرنكاً قيمة منحتي.
أما قسنطينة المدينة فكانت تقدم صوراً أخرى: فمع عمي تابعت الاتصال بذلك الجانب الفاتن: العيسوية العلية والموسيقا، وأيضاً جانبها البطولي. ففي ذلك العصر كان الحديث كثيراً عن مآثر شاب خارج عن القانون ولجأ إلى أودية وممرات وادي الرمل. كان يدعى (بوشلوح)، لقد كان بطلاً يملأ خيال المراهقين قبل نومهم. لقد جندت له الإدارة أفضل رجالها خشية أن تملأ المدينة أسطورته البطولية، غير أن (بوشلوح) كان دائماً يحبط خططهم، إذ حوصر مرة في فندق فتسلل هارباً من نافذته عبر مجرى للماء يأخذ مياه المدينة إلى أسفل وادي الرمل، ومن هناك اختفى بأعجوبة. كانت هذه الأسطورة تذكي خيالي وتغذيه، كما كانت تفعل أسطورة (بن زلمة) التي يتناقلها الناس في جبال أوراس، وأعمال (بو مصران) التي صجت بها منطقة عين مليلة.
وفي يوم تلقينا بأسى أن (بوشلوح) وقع جريحاً في يد الإدارة، إنما الذي كان يعزينا أن المفتش (بوناب) الذي جرحه قد دفع ثمنا لذلك حياته؛ لقد أثارت محاكمة (بوشلوح) الشعور في قسنطينة حين انتشرت كلمته إلى رئيس