[وجوب الاستعداد للحساب بين يدي الله عز وجل]
قال سبحانه: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٣ - ١٤]، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس:١٠٨]، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥].
قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق.
وقال ابن أدهم: كل آدمي في عنقه قلادة يكتب فيها نسخة عمله، فإذا مات طويت، وإذا بعث نشرت، وقيل له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٤].
قال ابن عباس رضي الله عنه: معنى طائره: أي: عمله.
وقوله تعالى: ((وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا)) قال الحسن: يقرأ الإنسان الكتاب أمياً كان أو غير أمي، يعرف القراءة أو لا يعرفها، ينطق ويقرأ في ذلك اليوم.
فتخيل نفسك إذا تطايرت الكتب، ونصبت الموازين، وقد نوديت باسمك على رءوس الخلائق: أين فلان ابن فلان؟ فاستعد للوقوف بين يدي الله، وهلم إلى العرض على الله، وقد وكلت الملائكة بأخذك فقربتك إلى الله لا يمنعها اشتباه الأسماء باسم أبيك، فإذا عرفت أنك المراد بالدعاء، وإذا قرع النداء قلبك علمت أنك المطلوب فارتعدت فرائصك، واضطربت جوارحك، وتغير لونك، وطار قلبك، وتخطي بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه، والوقوف بين يديه، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم، وأنت في أيدي الملائكة قد صار قلبك ممتلئاً رعباً؛ لعلمك أين يراد بك.
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) رواه البخاري.
فتخيل عبد الله! نفسك واقفاً بين يدي ربك في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبئة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل، وقلب منكسر حسير، والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلفك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها؟ وكم من سيئة كنت قد أخطيتها قد أظهرها وأبداها؟ وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص لك فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً؟ فيا حسرة قلبك! ويا أسفك على ما فرطت في طاعة ربك! عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله! أليس قد قال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:٧ - ٨]، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)، متفق عليه.
ثم يبدأ الحساب، وتكشف الحقائق، وتظهر الفضائح، فتذكر عبد الله أنك بين يدي الله موقوف، وأنك ستكلمه ليس بينك وبينه ترجمان، وستقف وستسأل عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير، فتسأل عن العمر، وعن الشباب، وعن المال، وعن كل نظرة، وكل كلمة قلتها، قال عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:٣٠]، فستسأل عن كل صلاة تخلفت عنها، وهل حفظت الصوم والزكاة أم لا؟ وهل أمرت بالمعروف ونهيت المنكر ودافعت عن أعراض المسلمين أم لا؟ وستسأل عن حقوق وواجبات وأوامر ومنهيات، فمن العباد من يحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم من يحاسب حساباً عسيراً، ويدعو ثبوراً.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن منه يوم القيامة فيضع عليه كنفه -أي: يضع عليه ستره- فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: أي نعم رب! أعرف، حتى يقرره بذنوبه، حتى إذا رأى العبد أنه قد هلك قال أرحم الراحمين: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته بيمينه، فهذا هو الحساب اليسير).
وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:١٨]!