[شرح الإمام النووي لحديث (اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار)]
قال: (وأما الكسل: فهو عدم انبعاث النفس إلى الخير وقلة الرغبة مع إمكانه).
أي: هو ممكن أن يفعل الخير، لكن نفسه كسولة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من ذلك.
قال الخطابي: (إنما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر الذي هو فقر النفس لا قلة المال.
قال القاضي: وقد تكون استعاذته من فقر المال والمراد الفتنة في عدم احتمال هذا المال وقلة الرضا به؛ ولذا قال: فتنة القبر، ولم يقل: الفقر، وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيح بفضل الفقر).
قال: (وأما العجز فهو: عدم القدرة على إتيان الفعل.
وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به، وكلاهما يستحب الاستعاذة منه).
وأما استعاذته عليه الصلاة والسلام من الهرم فالمراد به الاستعاذة من الرد إلى أرذل العمر.
أي: لو أن واحداً بلغ من العمر (٦٠) أو (٧٠) سنة، فإنه يستطيع أن يخدم نفسه، لكن في (٨٠) أو (٩٠) أو (١٠٠) يعجز حتى عن خدمة نفسه، فيحتاج إلى من يطعمه ويسقيه ويحمله ويقضي له حاجته وغير ذلك، وهذا بلا شك ثقل عظيم جداً، أسأل الله تعالى ألا يردنا وإياكم إلى أرذل العمر، قال: (وسبب ذلك ما فيه من الخرف واختلال العقل والحواس والضبط والفهم وتشويه بعض المناظر والعجز عن كثير من الطاعات والتساهل في بعضها.
قال: (وأما استعاذته من المغرم وهو الدين فقد فسره صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة في كتاب الصلاة أن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف.
أي: إذا كان الرجل مديناً فإنه إذا حدث كذب).
فيقول للدائن مثلاً: والله العظيم أنا لي فلوس عند فلان، فإذا أعطاني سأعطيك، وهو في الحقيقة ليس له عند فلان شيئاً، وربما إذا أتاه الدائن وطرق بابه قال لولده أخرج فقل له: أبي ليس موجوداً، فيخرج الابن فيقول له: أبي يقول لك: هو ليس في البيت! فالولد صادق لا يعرف الكذب، فهو ينقل الكلام حرفياً؛ لأنه ملتزم بالأمانة.
قال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف؛ ولأنه قد يمطل المدين صاحب الدين؛ ولأنه قد يشتغل به قلبه، وربما مات قبل وفائه فبقيت ذمته مرتهنة به) أي: بهذا الدين.
وأما استعاذته عليه الصلاة والسلام من الجبن والبخل فلما فيهما من التقصير عن أداء الواجبات، والقيام بحقوق الله تعالى، وإزالة المنكر، والإغلاظ على العصاة -لا يستطيع أن يفعل ذلك لأنه جبان- ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات، ويقوم بنصر المظلوم والجهاد، وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال وينبعث للإنفاق والجود ولمكارم الإخلاق، ويمتنع من الطمع فيما ليس له.
قال العلماء: (واستعاذته عليه الصلاة والسلام من هذه الأشياء كلها لتكمل صفاته في كل أحواله وشرعه أيضاً تعليماً).
أي: أنه قال ذلك من باب التعليم للأمة كي يدعون الله تعالى.
قال: (وفي هذه الأحاديث دليل لاستحباب الدعاء والاستعاذة من كل الأشياء المذكورة وما في معناها، وهذا هو الصحيح الذي أجمع عليه العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار، وذهبت طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلى أن ترك الدعاء أفضل؛ استسلاماً للقضاء).
وهذا تنطع لا يكون إلا من الزهاد، إذ إنه أحياناً تأخذهم غفلة الزهد أن يتكلموا بالحق، فيتكلمون بغيره ظناً منهم أنه دين، كما يقول الصوفية مثلاً: حمل المتاع في الأسفار قادح في التوحيد.
يعني: أنا ممكن أن أسافر من هنا إلى مكة من أجل أن أحج، وأوقن بأن الله تعالى سيطعمني ويسقيني في الطريق، وأنا راكب على دابتي فلماذا أمشي راجلاً؟ هل هذا دين؟! هم يقولون هذا.
كما يقولون: حمل الأزواد في الأسفار مخل بالتوكل! إذاً فأين الأخذ بالأسباب؟! قال: (وذهبت طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلى أن ترك الدعاء أفضل؛ استسلاماً للقضاء).
مع أن الدعاء عبادة، وهو من قضاء الله تعالى وقدره، فكيف نتركه؟! (وقال آخرون منهم: إن دعا للمسلمين فحسن، وإن دعا لنفسه فالأولى تركه).
لكن النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الأحاديث كان يدعو لنفسه.
قال: (وقال آخرون منهم -أي: من الزهاد-: إن وجد في نفسه باعثاً للدعاء استحب وإلا فلا).
أي: عندما ينشط يدعو وإلا فلا.
قال: (ودليل الفقهاء -أي: القائلون باستحباب الدعاء-: هو ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء وفعله، والأخبار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بفعله).