[أصناف المؤمنين في القرآن]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:٣٢ - ٣٥].
فقد قسم الله سبحانه الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها إلى ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام: الإسلام، والإيمان، والإحسان، كما سنذكره إن شاء الله تعالى].
هذه الآية هي آية فاطر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢]، وفيها أقسام المؤمنين، وهؤلاء الثلاثة كلهم مؤمنون، لأن الله أورثهم الكتاب واصطفاهم، فكلهم مصطفون، وكلهم أورثهم الله القرآن: فالصنف الأول: هو الظالم لنفسه، وهو المؤمن العاصي الذي أخل ببعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات.
والصنف الثاني: هو المقتصد، وهو المؤمن المطيع الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، لكن ليس عنده نشاط في فعل المستحبات والنوافل، وليس عنده نشاط في ترك المكروهات كراهة تنزيه وفضول المباحات، بل قد يتوسع في المباحات وقد يفعل المكروهات، فهؤلاء يقال لهم: مقتصدون، ويقال لهم أصحاب اليمين.
والصنف الثالث: السابق بالخيرات، وهم الذين أدوا الواجبات، ومع ذلك عندهم نشاط ففعلوا المستحبات والنوافل، وتركوا المحرمات، وتركوا المكروهات كراهة تنزيه، وتركوا فضول المباحات خشية الوقوع في المحرمات، وهؤلاء كلهم مؤمنون، فإن قيل: كيف يكون العاصي من المصطفين؟ قلنا: لما سلم من الشرك ووحد الله وأخلص له العبادة صار من المصطفين دون الكفار.
والقسم الرابع: الكفار.
وفي سورة الواقعة قسمهم الله ثلاثة أصناف فقال: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:٧]، وقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:١٠]، وقال: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:٢٧]، وقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:٤١].
وفي آخر الواقعة قسمهم كذلك.
وهؤلاء الثلاثة: الظالم والمقتصد والسابق ينطبقون على الطبقات الثلاث في حديث جبريل: الإسلام والإيمان والإحسان، فالظالم لنفسه يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً؛ لأنه ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، والمقتصد يسمى مؤمناً، والسابق للخيرات يسمى محسناً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر أو التائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصداً أو سابقاً].
الأقرب والله أعلم أن الظالم لنفسه لا يراد به من اجتنب الكبائر، وقوله: (إن أريد به من اجتنب الكبائر) أي: ما أريد به من اجتنب الكبائر فإن هنا نافية بمعنى (ما)؛ لأن الظالم لنفسه هو الذي يفعل بعض الكبائر، والتائب من جميع الذنوب، إما مقتصد إذا كان يفعل بعض النوافل والمستحبات، وإما سابق بالخيرات إن كان يفعل مع ذلك المستحبات.
فإذاً الظالم لنفسه غير التائب، لأن الظالم لنفسه هو الذي يفعل بعض المحرمات ويترك بعض الواجبات ولم يتب، أما من تاب من فعله لبعض الكبائر فيكون من المقتصدين أو من السابقين، فالظالم لنفسه يراد به من يفعل بعض الكبائر ولا يراد به من اجتنب الكبائر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:٣١]، فلا بد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة، ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا].
التائب إما مقتصد أو سابق، ويقولون: ليس أحد من بني آدم يخرج من الذنب، فالإنسان محل الذنب، لكن من تاب كان مقتصداً أو سابقاً، إن تاب من الذنب وفعل المستحبات فهو سابق، وإن تاب من الذنب ولم يفعل النوافل فهو مقتصد، ومن اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:٣١].
إذاً: لابد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر به من الخطايا وهذا هو المؤمن العاصي، وهو موعود بالجنة إن عاجلاً أو آجلاً؛ إن عفا الله عنه دخل الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف الله عنه عذب بالنار ثم أخرج منها إلى الجنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن ما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب مما يجزى به ويكفر به من خطاياه، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذىً حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)].
وهذا الحديث صحيح رواه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما.
والوصب المرض.
والنصب: التعب.
والهم والحزن والغم من أمراض الداخلية والباطن، والأذى عام، وقيل الهم ينشأ عن الفكر في ما يتوقع حصوله مما يتأذى به.
والغم كرب يحدث للقلب بسبب ما حصل.
والحزن يحصل لفقد ما يشق على المرء فقده.
وهذه كلها يكفر بها من خطاياه، فإذا أصاب الإنسان مرض أو تعب أو هم أو حزن أو غم أو أذى حتى الشوكة إذا أصابت جسمه يكفر الله بها من خطاياه، ولما نزل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣] بين النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أن الحزن والهم يجزى به الإنسان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي المسند وغيره أنه لما نزلت هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣].
قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: (يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك مما تجزون به)].
اللأواء: الشدة وضيق العيش.
أبو بكر رضي الله عنه بفقهه وعلمه وورعه يفهم معنى الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣]، إذ معناه: أن كل سوء يعمله الإنسان لا بد أن يجازى به، فقال: يا رسول الله! جاءت قاصمة الظهر، ومن يستطيع ألا يعمل شيئاً ولا يقع في سيئة ولا هفوة، وكل شيء نعمله لابد أن نجازى به، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الجزاء ليس خاصاً في الآخرة، بل عام في الدنيا فقال: (يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء والشدة والهم والغم قال: بلى، قال: ذلك مما تجزون به).
فإذا تعب الإنسان أو أصابه نصب أو هم أو غم أو شوكة أو أذى أو ضيق أو مصيبة كفر بها من خطاياه، والحمد لله على ذلك، والمؤمن أمره كله له خير؛ ولهذا جاء في الحديث: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)، فالمؤمن ينصب ويحزن ويتعب، وتصيبه اللأواء والشدة وضيق العيش والمرض، وهذا كله مما يبتلى به الإنسان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يخرج أقوام من النار بعدما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار].
هذا هو المرجح السادس من المرجحات: أن وصف العصاة بالإيمان والإسلام لضعف إيمانهم لا لنفاقهم، وأن المؤمن العاصي إذا دخل النار فإنه يعذب بها ثم يخرج، وقد يشفع فيه فلا يدخل النار، وقد يعفو الله عنه، فدل هذا على أن الفاسق أو العاصي والذي وصف بالإيمان دون الإسلام لا يخرج من الإيمان ولو ضعف إيمانه.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يخرج أقوام من النار بعدما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار، بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في العصاة أربع مرات، وكل مرة يحد الله له حداً، جاء في بعض الأحاديث: أن الله يقول: (أخرج من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان) وفي بعضها: (مثقال نصف دينار) وفي بعضها: (أخرج من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) وفي بعضها: (أخرج من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان) وفي بعضها: (أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان) فيخرجهم بالعلامة وقد جعل الله له علامة، وهذا فيه رد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد العصاة في النار وأنهم لا يخرجون منها، فهذا دليل ومن المرجحات على أن العاصي وضعيف الإيمان لا يخرج من الإيمان ولا يسمى منافقاً، بل عنده أصل الإيمان، فيقال: إنه مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.