للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْكَلَامُ فِي ذَمِّ الْجِدَالِ (١) كَثِيرٌ، فإِذا كَانَ مَذْمُومًا؛ فَمَنْ جَعَلَهُ مَحْمُودًا وعَدَّه (٢) مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ بإِطلاق فَقَدِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ. وَلَمَّا كَانَ اتباعُ الْهَوَى أَصلَ الِابْتِدَاعِ؛ لَمْ يُعْدَم صاحبُ الْجِدَالِ أَن يماريَ ويطلبَ الغَلَبة، وَذَلِكَ مَظِنَّة رَفْعِ الأَصوات.

فإِن قِيلَ: عددتَ رَفْعَ الأَصوات من فروع الجدل وخواصِّه، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَرَفْعُ الأَصوات قَدْ يَكُونُ في العلم، ولذلك كُرِه رفع الصوت (٣) فِي الْمَسْجِدِ (٤)، وإِن كَانَ فِي الْعِلْمِ أَو فِي غَيْرِ الْعِلْمِ.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي "الْمَبْسُوطِ": رأَيت مَالِكًا يَعِيبُ عَلَى أَصحابه رَفْعَ (٥) أَصواتهم فِي الْمَسْجِدِ (٦).

وَعَلَّلَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة بعلَّتين:

إِحداهما: أَنه يجب أَن يُنَزَّهَ الْمَسْجِدَ عَنْ مِثْلِ هَذَا؛ لأَنه مما أُمر بِتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنه مبنيٌّ لِلصَّلَاةِ، وقد أُمرنا أَن نأَتيها وعلينا السكينة


(١) في (ر) و (غ): "الجدل".
(٢) في (غ): "وظنه" بدل "وعده".
(٣) في (خ) و (ت): "الأصوات".
(٤) أخرج البخاري في "صحيحه" (٤٧٠) عن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما. قال: من أنتما ـ أو من أين أنتما؟ ـ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما! ترفعان أصواتكما فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (١/ ٥٦١): "ووردت أحاديث في النهي عن رفع الصوت لكنها ضعيفة؛ أخرج ابن ماجه بعضها".
(٥) في (ر) و (غ): "رفعهم".
(٦) ذكره محمد بن يوسف العبدري في "التاج والإكليل" (٦/ ١٥) عن ابن القاسم. هكذا، ونقل ابن أبي زيد القيرواني في "النوادر والزيادات" (١/ ٥٣٦) أن ابن القاسم قال في "المجموعة": "قال مالك: ولا ينبغي رفع الصوت في المسجد في العلم ولا في غيره، وكان الناس ينهون عن ذلك".