مثل ما طرقتنا قصاده على حين غفلة، كذلك هو يطرقنا أيضا على حين غفلة. فشرع الناس في تحصين أماكن في أطراف المدينة وجوانبها ليختفوا فيها إذا دخل ابن عثمان إلى مصر، وبعض الناس عول على أن ينزل هو وأولاده وعياله ويتوجه إلى أعلى الصعيد إذا تحقق مجيء ابن عثمان.
وأشيع أن خاير بك نائب حلب، الذي عصى ودخل تحت طاعة ابن عثمان، أرسل مطالعات إلى بعض الأمراء المقدمين، وهو يرعبهم في الدخول تحت طاعة ابن عثمان، وشرع يطنب في محاسنه وعدله بين الرعية، وأنه إذا دخل مصر يبقى كل أحد من الأمراء على وظيفته وعلى رزقه. وكل هذا حيل وخداع، حتى يتمكن من الدخول إلى مصر.
ثم إن السلطان نادى للعسكر أن أول النفقة يوم الأربعاء ثالث عشري الشهر، فجلس السلطان بالحوش على الدكة، وطلع العسكر لقبض النفقة فلما طلعوا أنفق عليهم لكل مملوك ثلاثون دينارا وجامكية ثلاثة أشهر بعشرين دينارا، فرموا تلك النفقة في وجهه، وقالوا ما نسافر حتى نأخذ مائة دينار كل مملوك، فإننا لم يبق عندنا لا خيول ولا قماش ولا برك ولا سلاح، فنزلوا كلهم من القلعة على حمية، وهم على غير رضا، فحنق منهم السلطان وقام عن الدفكة وطلع المقعد، وقال:"ما أقدر على مائة دينار لكل مملوك، والخزائن فارغة من المال، وإن لم ترضوا بذلك فولوا عليكم من تختارونه في السلطنة، وأنا أتوجه إلى مكة أو غيرها من البلاد" فوقع في ذلك اليوم بعض اضطراب، وأشيع أن بعض المماليك قال للسلطان:"إن كنت تعمل سلطانا فامش على طريقة من تقدمك من الملوك، وإن رحت لعنة الله عليك، غيرك يجي يعمل سلطانا". فسمع ذلك بأنه منهم.
وأشيع أن السلطان قال للعسكر:"أنتم أخذتم من السلطان الغوري ثلاثين دينارا ولم تقاتلوا شيئا، وكسرتم السلطان وخنتموه حتى قتل". فنزل العسكر على غير رضا … وأشيع إثارة فتنة بين العسكر.
ثم إنه في ذلك اليوم نادى السلطان بأن جميع الأمراء من الأكابر والأصاغر يطلعون غدا باكر النهار، فإن العرض عام. وانفض المجلس على ذلك.
فلما كان يوم الخميس رابع عشرية، جلس السلطان على الدكة بالحوش، وطلع الأمراء قاطبة والعسكر، وطلع سيدي محمد ابن السلطان الغوري، فقال السلطان:"هذا ابن أستاذكم قد حضر، اسألوه إن كان أبوه ترك في الخزائن شيئا من المال يخبركم بذلك، وإن كنتم تسلطنونه فأنا أول من يبوس له الأرض". فقالت المماليك الجلبان:"نحن نسافر بلا نفقة حتى نأخذ بثأر أستاذنا". وقالت المماليك القرانصة:"نحن ما نسافر حتى نأخذ مائة وثلاثين دينارا كما أعطى من سافر قبلنا". فانفض المجلس مانعا أيضا … وكثر القال والقيل في ذلك اليوم.