ثم أن السلطان نادى للعسكر بأن من كان له عليق مكسور أو لحم مكسور يطلع إلى القلعة يوم الاثنين فيصرف له ذلك، فلما كان الاثنين طلع العسكر قاطبة فلم يصرف لهم سوى العليق فقط واستمر اللحم موقوفا، وكان ديوان المفرد في تلك الأيام في غاية الانشحات، والوزير يوسف البدري مع المماليك في غاية الذل، وهو مهدد منهم بالقتل في كل يوم. وكان السلطان أخرج عن ديوان الوزارة عدة جهات كانت توسعة في الديوان، منها جهات قطيا وغير ذلك من الجهات، فأنعم بجهات قطيا على الأمير قانصوه روح لو، واستمر مقيما هناك على تقدمته، فانشحت الديوان إلى الغاية بسبب ذلك، وكان العسكر كثيرا ولا سيما ما جدده السلطان من العسكر في الطبقة الخامسة. فانشحتت الدواوين من الجوامك واللحوم والعليق بسبب ذلك.
وفي يوم الأحد عشرينه جلس السلطان على المصطبة التي بالحوش، وأحضر الوزير يوسف البدري ومباشري الديوان، وأحضر المعاملين والطباخين فعملوا حسابهم بحضرة السلطان، فظهر لهم مال له جرم منكسر في الديوان، فرسم على المباشرين بجامع القلعة وأقام في عمل حسابهم إلى بعد الظهر، وكان ذلك اليوم في غاية النكد، هذا والمماليك قائمة عند حظوظ أنفسهم، وقد أشيع بين الناس أمر الركوب على السلطان.
وقيل: إن السلطان أحضر بعد العصر جماعة من أعيان خاصكيته وعتبهم على هذه الأفعال الشنيعة فأغلظ عليه بعض الخاصكية وقال له: "أنت الذي أشحت الدواوين بهذا العسكر الكثير الذي جمعته وجعلت له طبقة خامسة وقطعت جوامك الأيتام والنساء بسببهم وهم ما بين تراكمة وأعجام وسويخاتة وأساكفة وأولاد ناس ملفقين شيء خياط وشيء بخانقي". فقال لهم:"أنا ما جعلت ذلك العسكر المستجد إلا أن يكون فداء لكم في الأسفار والتجاريد". فقال له المماليك:"هذا ما كان طريقة الملك الأشرف قايتباي وأنت الذي أشحت الدواوين حتى صار اللحم ينكسر خمسة أشهر، وكذلك العليق يعطوه لنا من الشون قمح مسوس ما تأكله الخيل. والجامكية التي تعطيها لنا ما تكفانا لكراء بيت واسطبل وجامكية الغلام ولكسوتنا، والقماش كله غالي حتى الخام ما يوجد. والأقسمة صارت غالية كل جرة بنصفين فضة، فما نشبع في أيامك لا من اللحم ولا من الأقسمة، ونحن جياعة عراية". فسكت السلطان ساعة ثم قال:"لكم الرضا أصرف لكم اللحم المكسور وكذلك العليق أصرفه لكم شعير مغربل وأجعل لكم الأقسمة كل جرة بنصف فضة".
فارتفعت له الأصوات بالدعاء وانصرفوا من بين يديه وهم شاكرون وخمدت تلك الفتنة قليلا.