تهزأ بالفراق؛ فترك الإخبار بالياء وخرج إلى المخاطبة؛ وإنما يخاطب نفسه, وذلك معروف في الشعر وغيره. والناس يستعملون المجانة في معنى الهزء بالشيء والتهاون به. يقولون: فلان ماجن إذا كان مسرفًا في اللهو والقول لما لم يكن. وأما أهل العلم فيقولون: مجن إذا مرن على الشيء. يقول لنفسه: قد كنت تجر ذيلي شرةٍ وعرام؛ أي في أول أمرك؛ ثم انتقلت عن ذلك إلى سواه.
وقوله:
ليت الذي خلق النوى جعل الحصى ... لخافهن مفاصلي وعظامي
(١٨٦/أ) الهاء في خافهن عائدة إلى الركاب. والخف يستعمل للإبل, ويستعار للنعام, ويقال للجمل المسن: خف. قال الراجز: [الرجز]
أعطيت عمرًا بعد بكرٍ خفا ... والدلو قد تسمع كي تخفا
يقال: أسمعت الدلو إذا شددت أسفلها لتخفز يقول: ليت الذي خلق النوى - أي البعد - جعل مفاصلي وعظامي تطؤها الركاب كوطئها الحصى, وهذه أمنية غير صادقٍ فيها الزاعم.
وقوله:
لو كن يوم جرين كن كصبرنا ... عند الرحيل لكن غير سجام
يقول: دموعنا غزيرة وكثيرة فلو كان كصبرنا يوم الرحيل لكن قائلا لا يجرين.
وقوله:
لم يتركوا لي صاحبًا إلا الأسى ... وذميل دعلبةٍ كفحل نعام
يقال: ناقة ذعلب وذعلبة إذا كانت سريعة. قال النابغة: [الطويل]
ذكرت سعادًا فاعترتني صبابة ... وتحتي مثل الفحل وجناء ذعلب
ويعني بفحل النعام: الظليم, والناقة تشبه بالنعامة, وبالثور الوحشي, والبقرة الوحشية, وحمار الوحش.