للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَالنَّاسُ قَدِ انْثَالُوا عَلَيْهِ، وَأَجْفَلُوا إِلَيْهِ يَسْتَوْصِفُونَهُ فَنَزَلْتُ عَنْ دَابَتِي، وَدَخَلْتُ فِي غِمَارِ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ، فَقُلْتُ: يَا هَذَا، عَيْنَاكَ أَحْوَجُ مِنْ هَذَهِ الأَعْيُنِ إِلَى الْعِلاجِ، وَأَنَتَ تَصِفُ هَذَا الدَّواءَ، وَتُخْبِرُ أَنَّهُ شِفَاءٌ لِوَجِعِ الأَعْيُنِ، فَلِمَ لا تَسْتَعْمِلُهُ؟ فَقَالَ: أَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، مَا مَرَّ بِي شَيخٌ أَجْهَلَ مِنْكَ.

قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: يَا جَاهُلُ، أَتَدْرِي أَيْنَ اشْتُكَّتْ عَيْنِي؟ قُلْتُ: لا.

قَالَ: بِمِصْرَ، قَالَ: فَأَقْبَلَتْ عَلَيَّ الْجَمَاعَةُ، فَقَالُوا: صَدَقَ الرَّجُلُ، أَنْتَ جَاهِلٌ، وَهَمُّوا بِي، فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ عَيْنَهُ اشْتُكَّتْ بِمِصْرَ.

قَالَ: فَمَا تَخَلَّصْتُ مِنْهُمْ إِلا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، قَالَ: فَضَحِكَ الْمَأْمُونُ، وَقَالَ: مَاذَا لَقِيَتَ الْعَامَّةُ مِنْكَ؟ قُلْتُ: الَّذِي لَقِيَتْ مِنَ اللَّهِ مِنْ سُوءِ الثَّنَاءِ وَقُبْحِ الذِّكْرِ أَكْثَرُ، قَالَ: أَجَلْ

حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: " قَالَ لِي شُرَيْحٌ الْقَاضِي: مَا غَلَبَنِي فِي الْجَوَابِ أَحَدٌ قَطُّ كَرَجُلٍ أَتَانِي يَوْمًا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ حِينَ صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ وَمَعَهُ خَصْمٌ لَهُ، وَعَلَى الْفَتَى جُمَّةٌ لَهُ كَأَنَّهَا قَتَادَةٌ قُدِّرَ رَطَلُهَا، فَتَكَادُ تَقْطُرُ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ غَاظَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: أَمَا كَانَ لَكَ هِمَّةٌ مُنْذُ أَصْبَحْتَ إِلا شَعْرَكَ هَذَا تُرَطِّلُهُ، فَقَالَ لِيَ الْفَتَى: لَيْسَ لِهَذَا جَلَسْنَا بَيْنَ يَدَيْكَ، إِنَّمَا جَلَسْنَا نَتَخَاصَمُ إِلَيْكَ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ مُحْتَسِبًا عَلَى الشَّعْرِ فَلا، فَأَغْضَبَنِي.

فَقُلْتُ لَهُ: أَرَاكَ مُعْجَبًا بِنَفْسِكَ؟ قَالَ: أَنَا إِذَا زَهَدْتُ فِي نَفْسِي، فَمَنْ يُعْجَبُ فِيهَا؟ قَالَ شُرَيْحٌ: فَقُلْتُ لَهُ: أَرَاكَ تُكْثِرُ الْكَلامَ! فَقَالَ الْفَتَى: فَمَنْ يُعَبِّرُ حُجَّتِي إِذَا لَمْ أَتَكَلَّمْ؟ قَالَ شُرَيْحٌ: قُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ ظَالِمًا.

قَالَ الْفَتَى: لَيْسَ عَلَى ظَنِّكَ تَقْضِي بَيْنَنَا، إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ تَقْضِيَ بِالْحَقِّ الْوَاضِحِ، وَتَدَعَ الظَّنَّ.

قَالَ شُرَيْحٌ: فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ أُمَازِحَهُ بَعْدَ هَذَا الْكَلامِ، فَقُلَتْ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ فِي مَجْلِسِي هَذَا عَلَى الْقَضَاءِ؟ فَقَالَ: أَمَّا وَأَنَا آخُذُ عَلَيْهِ الْكَرَاءَ مِثْلَكَ فَلا، وَلَكِنْ مُحْتَسِبًا لِلْمُسْلِمِينَ.

قَالَ شُرَيْحٌ: فَأَخْجَلَنِي وَاللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَعَرَبِيٌّ أَنْتَ مُزَوِّجُهَا؟ فَقَالَ: اطْلُبْ.

قَالَ: مِنْ مَظَانِّهِ، يَعْنِي مِنْ قَبِيلِ النِّسَاءِ.

قَالَ شُرَيْحٌ: فَتَرَكْتُ مَجْلِسِي ذَلِكَ وَقُمْتُ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى بَابِ دَارِهِمُ، فَنَادَيْتُ فَخَرَجَتْ إِلَيَّ الْجَارِيَةُ، فَكَلَّمَتْنِي مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا شُرَيْحٌ.

فَقَالَتِ: الْقَاضِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَتْ: حَيَّاكَ اللهُ يَا أَبَا أُمَيَّةَ، حَاجَتُكَ؟ قُلْتُ: أَرَدْتُ فُلانَةً، أَعْنِي أُمَّهَا.

قَالَتْ: هِيَ غَائِبَةٌ، وَأَنَا خَلِيفَتُهَا فِي الْمَنْزِلِ.

قُلْتُ: أَتَيْتُهَا خَاطِبًا فُلانَةً ابْنَتَهَا، فَاسْتَحْيَتْ مِنِّي وَتَسَتَّرَتْ مِنِّي، فَبَعَثْتُ إِلَى أُمِّهَا وَأَهْلِهَا فَجَمَعْتُهُمْ وَتَزَوَّجْتُهَا، وَبَعَثْتُ الْمَالَ، وَنَقَدْتُهُمْ مِنَ سَاعَتِي.

وَقُلْتُ لَهُمْ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكُمْ إِنْ بَاتَتْ إِلا عِنْدِي.

<<  <   >  >>