للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ يُبْغِضُ الأَنْصَارَ، لأَنَّهُمْ أَسَرُوا أَبَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَضَرَبُوا عُنُقَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَامَ يَشْتُمُ الأَنْصَارَ وَذَكَّرَهُمْ بالْهُجْرِ، فَقَالَ: إِنَّ الأَنْصَارَ لَتَرَى لَهَا مِنْ الحَقٍّ عَلَيْنَا مَا لا نَرَاهُ، وَاللَّهِ لِئِنْ كَانُوا آوَوْا لَقَدْ عَزَّوا بِنَا، وَلَئِنْ كَانُوا آسَوْا لَقَدْ مَنُّوا عَلَيْنَا، وَاللَّهِ مَا نَسْتَطِيعُ مَوَدَّتَهُمْ لأَنَّهُمْ لا يَزَالُ قَائِلٌ مِنْهُمْ يَذْكُرُ ذُلَّنَا بِمَكَّةَ وَعِزَّنَا بِالْمَدِينَةِ، وَلا يَنْفَكُّونَ يُعَيِّرُونَ مَوْتَانَا وَيَغِيظُونَ أَحْيَاءَنَا، فَإِنْ أَجَبْنَاهُمْ قَالُوا: غَضِبَتْ قُرَيْشٌ عَلَى غَارِبِهَا، وَلَكِنْ قَدْ هَوَّنَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ حِرْصُهُمْ عَلَى الدِّينِ أَمْسِ، وَاعْتِذَارُهُمْ مِنَ الذَّنْبِ الْيَوْمَ، ثُمَّ قَالَ:

تَبَاذَخَتِ الأَنْصَارُ فِي النَّاسِ بَاسْمِهَا ... وَنِسْبَتُهَا فِي الأَزْدِ عَمْرُو بْنُ عَامِرِ

وَقَالُوا: لَنَا حَقُّ عَظِيمٌ وَمِنَّةٌ ... عَلَى كُلِّ بَادٍ مِنْ مَعَدٍّ وَحَاضِرِ

فَإِنْ يَكُ لِلأَنْصَارِ فَضْلٌ فَلَمْ تَنَلْ ... بِحُرْمَتِهِ الأَنْصَارُ فَضْلَ الْمُهَاجِرِ

وَإِنْ تَكُنِ الأَنْصَارُ آوَتْ وَقَاسَمَتْ ... مَعَايِشِهَا مَنْ جَاءَ قِسْمَةَ جَازِرِ

فَقَدْ أَفْسَدَتْ مَا كَانَ مِنْهَا بِمَنِّهَا ... وَمَا ذَاكَ فِعْلُ الأَكْرَمِينَ الأَكَابِرِ

إِذَا قَالَ حَسَّانٌ وَكَعْبٌ قَصِيدَةً ... بِشَتْمِ قُرَيْشٍ غُنِّيتَ فِي الْمَعَاشِرِ

وَسَارَ بِهَا الرُّكْبَانُ فِي كُلِّ وِجْهَةٍ ... وَأَعْمَلَ فِيهَا كُلُّ خُفٍّ وَحَافِرِ

فَهَذَا لَنَا مِنْ كُلِّ صَاحِبِ خُطْبَةٍ ... يَقُومُ بِهَا مِنْكُمْ وَمَنْ كُلِّ شَاعِرِ

وَأَهْلٌ بِأَنْ يُهْجَوْا بِكُلِّ قَصِيدَةٍ ... وَأَهْلٌ بْأَنْ يُرْمَوْا بِنَبْلٍ فَوَاقِرِ

قَالَ: فَفَشَا شِعْرُهُ فِي النَّاسِ، فَغَضِبَتِ الأَنْصَارُ وَغَضِبَ لَهَا مِنْ قُرَيْشٍ قَوْمٌ، مِنْهُمْ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَبَعَثُوا إِلَى الْوَلِيدَ فَجَاءَ.

فَتَكَلَّمَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، لأَحْبَبْتَ الأَنْصَارَ، وَلَكِنَّكَ مِنَ الْجُفَاةِ فِي الإِسْلامِ، الْبُطَاءِ عَنْهُ، الَّذِينَ دَخَلُوا فِيهِ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ.

إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّا أَتَيْنَاهُمْ وَنَحْنُ فُقَرَاءُ فَأَغْنَوْنَا، ثُمَّ أَصَبْنَا الْغِنَى فَكَفُّوا عَنَّا.

وَلَمْ يَرْزُءُونَا شَيْئًا.

فَأَمَّا ذِكْرُهُمْ ذِلَّةَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وَعِزِّهَا بِالْمَدِينَةِ فَكَذَلِكَ كُنَّا.

وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى} وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الأنفال: ٢٦] ، فَنَصَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ، وَآوَانَا إِلَى مَدِينَتِهِمْ.

وَأَمَّا غَضَبُكَ لِقُرَيْشٍ فَإِنَّا لا نَنْصُرُ كَافِرًا، وَلا نُوَادُّ مُلْحِدًا، وَلا فَاسِقًا.

وَلَقْدَ قُلْتَ وَقَالُوا فَقَطَعَكَ الْخَطِيبُ، وَأَلْجَمَكَ الشَّاعِرُ.

وَأَمَّا ذِكْرُكَ الَّذِي كَانَ بِالأَمْسِ، فَدَعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ، فَإِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ فِي الرِّضَا، وَلا نَحْنُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فِي الْغَضْبِ.

<<  <   >  >>