للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَأَمْثَالِهَا قَالَ النَّاظِمُ فَمَا الْعِزُّ إلَّا فِي الْقَنَاعَةِ (وَ) هِيَ (الرِّضَا بِأَدْنَى) أَيْ بِأَقَلِّ (كَفَافٍ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَا يَكْفِيك عَنْ السُّؤَالِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ الْكِفَايَةِ. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ سُئِلَ مَا الْكَفَافُ مِنْ الرِّزْقِ؟ قَالَ: شِبَعُ يَوْمٍ وَجُوعُ يَوْمٍ (حَاصِلٌ) لَك بِأَنْ كَانَ عِنْدَك مَا يَكْفِيك أَوْ يَأْتِيك مِنْ غَلَّةٍ أَوْ ضَيْعَةٍ مَا يَكْفِيك وَيَوْمًا بِيَوْمٍ أَوْ عَامًا بِعَامٍ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا حَصَلْت عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَفُتْك شَيْءٌ مِنْ أُصُولِ الْمَعِيشَةِ وَلَا حَاجَةَ لَك فِيمَا يُنَافِسُ فِيهِ الْمُتْرَفُونَ مِنْ فُضُولِ الْمَعِيشَةِ، فَإِنَّهُ - مَعَ كَوْنِهِ مَسْئُولًا عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - هَمٌّ حَاضِرٌ، وَقَطْعُ أَيَّامَ الْعُمُرِ فِيمَا يَئُولُ إلَى التُّرَابِ، وَأَنْفَاسُ الْعَبْدِ مَحْسُوبَةٌ عَلَيْهِ، وَهِيَ جَوَاهِرُ ثَمِينَةٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُنْفَقَ فِي التُّرَابِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى هَذَا الْقَنَاعَةُ.

إنَّ الْقَنَاعَةَ مَنْ يَحْلُلْ بِسَاحَتِهَا ... لَمْ يَلْقَ فِي ظِلِّهَا هَمًّا يُؤَرِّقُهُ

وَقَالَ آخَرُ:

اقْنَعْ بِرِزْقٍ يَسِيرٍ أَنْتَ نَائِلُهُ ... وَاحْذَرْ وَلَا تَتَعَرَّضْ لِلْإِرَادَاتِ

فَمَا صَفَا الْبَحْرُ إلَّا وَهُوَ مُنْتَقِصُ ... وَلَا تَكَدَّرَ إلَّا بِالزِّيَادَاتِ

وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ لِشَقِيقٍ: أَخْبِرْنِي عَمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ: قَالَ شَقِيقٌ قُلْت: إنْ رُزِقْت أَكَلْت، وَإِنْ مُنِعْت صَبَرْت، قَالَ: هَكَذَا تَعْمَلُ كِلَابُ بَلْخِي. قُلْت فَكَيْفَ تَعْمَلُ أَنْتَ؟ قَالَ: إذَا رُزِقْت آثَرْت، وَإِذَا مُنِعْت شَكَرْت، فَعَدَّ الْمَنْعَ عَطَاءً يُشْكَرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ.

قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ: تَفَكَّرْت فِي قَوْلِ شَيْبَانَ الرَّاعِي لِسُفْيَانَ: يَا سُفْيَانُ عُدَّ مَنْعَ اللَّهِ إيَّاكَ عَطَاءً مِنْهُ لَك، فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْك بُخْلًا إنَّمَا مَنَعَك لُطْفًا، فَرَأَيْته كَلَامَ مَنْ قَدْ عَرَفَ الْحَقَائِقَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُرِيدُ الْمُسْتَحْسَنَاتِ الْفَائِقَاتِ فَلَا يَقْدِرُ، وَعَجْزُهُ أَصْلَحُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِنَّ تَشَتَّتَ قَلْبُهُ، إمَّا لِحِفْظِهِنَّ أَوْ بِالْكَسْبِ عَلَيْهِنَّ، فَإِنْ قَوِيَ عِشْقُهُ لَهُنَّ ضَاعَ عُمُرُهُ، وَانْقَلَبَ هَمُّ الْآخِرَةِ إلَى الِاهْتِمَامِ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْنَهُ فَذَاكَ الْهَلَاكُ الْأَكْبَرُ، وَإِنْ طَلَبْنَ نَفَقَةً لَمْ يُطِقْهَا كَانَ سَبَبَ ذَهَابِ مُرُوءَتِهِ وَهَلَاكِ عِرْضِهِ، وَإِنْ مَاتَ مَعْشُوقٌ هَلَكَ هُوَ أَسَفًا، فَاَلَّذِي يَطْلُبُ الْفَائِقَ يَطْلُبُ سِكِّينًا لِذَبْحِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>