وَالْآرَاءِ الْمَنْصُورَةِ. كَيْفَ لَا وَتِلْكَ عَنْ قَرِيبٍ يُصَوَّعُ نَوْرُهَا، وَيَذْهَبُ حُبُورُهَا، وَتَنْطَمِسُ أَنْهَارُهَا، وَتَنْدَرِسُ آثَارُهَا.
وَهَذِهِ كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهَا زَمَانٌ ازْدَادَ جَمَالُهَا وَعَذُبَ سَلْسَالُهَا، وَرَاقَتْ مَعَانِيهَا، وَزَهَتْ مَبَانِيهَا. وَبَهْجَةُ تِلْكَ مَدِيدَةٌ وَتَنْقَضِي، وَالسَّعَادَةُ بِهَذِهِ لَا تَزُولُ وَلَا تَمْضِي. فَإِنَّ مَعْنَى تِلْكَ فَرْحَةُ سَاعَةٍ وَتَزُولُ، وَمَعْنَى هَذِهِ فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَةُ آدَابِ الرَّسُولِ، وَفِي الْآخِرَةِ الْمَقَامُ فِي دَارِ الْخُلْدِ فِي سُرُورٍ وَحُبُورٍ لَا يَحُولُ، إذَا عَلِمْت هَذَا:
فَخُذْهَا بِدَرْسٍ لَيْسَ بِالنَّوْمِ تُدْرِكْنَ ... لِأَهْلِ النُّهَى وَالْفَضْلِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ
(فَخُذْهَا) أَيُّهَا الطَّالِبُ الَّذِي فِي عِلْمِ الْآدَابِ رَاغِبٌ (بِدَرْسٍ) أَيْ بِقِرَاءَةٍ وَرِيَاضَةِ نَفْسٍ وَتَمْرِينٍ. يُقَالُ دَرَسَ الْكِتَابَ يَدْرُسُهُ دَرْسًا وَدِرَاسَةً قَرَأَهُ (لَيْسَ) أَنْتَ (بِالنَّوْمِ تُدْرِكَنْ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (لِ) مَقَامِ (أَهْلِ النُّهَى) بِالضَّمِّ أَيْ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْعِلْمِ جَمْعُ نُهْيَةٍ بِالضَّمِّ أَيْضًا، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْهَى عَنْ الْقَبَائِحِ (وَالْفَضْلِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ) أَيْ مَحْضَرِ النَّاسِ وَمَجْمَعِهِمْ.
ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَتَمَ مَنْظُومَتَهُ بِمَا بَدَأَهَا بِهِ وَهُوَ حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ:
وَقَدْ كَمُلَتْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ... عَلَى كُلِّ حَالٍ دَائِمًا لَمْ يَصْدُدْ
(وَقَدْ كَمُلَتْ) هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ، الَّتِي بِمَنْظُومَةِ الْآدَابِ مَوْسُومَةٌ (وَالْحَمْدُ) أَيْ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ (لِلَّهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (وَحْدَهُ) لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ (عَلَى كُلِّ حَالٍ) مِنْ الْأَحْوَالِ مِنْ يُسْرٍ وَعُسْرٍ، وَسَعَةٍ وَضِيقٍ، وَرَخَاءٍ وَشِدَّةٍ، وَسَرَّاءَ وَضَرَّاءَ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، حَالَ كَوْنِ الْحَمْدِ لَهُ سُبْحَانَهُ (دَائِمًا) مُسْتَمِرًّا فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالشُّؤُونِ (لَمْ يُصَدِّدْ) أَيْ لَمْ يَمْنَعْ وَلَمْ يَصْرِفْ.
يُقَالُ صَدَّ زَيْدٌ فُلَانًا عَنْ كَذَا مَنَعَهُ وَصَرَفَهُ كَأَصَدَّهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَ بَسَطَ بِسَاطَ الْوُجُودِ عَلَى مُمْكِنَاتٍ لَا تُحْصَى، وَوَضَعَ عَلَيْهَا مَوَائِدَ كَرَمِهِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى، وَأَفَاضَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute