التحقيق؛ إذ ليس كل من رفع بمدحه ووضع بهجائه كان أشعر الناس؛ لأن المعاني الشعرية كثيرة والمدح والهجاء منها.
وسئل الشريف الرضي عن أبي تمام وعن البحتري وعن أبي الطيب، فقال:
أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحتري فواصف جؤذر، وأما المتنبي فقاتل عسكر، وهذا كلام حسن واقع في موقعه؛ فإنه وصف كلا منهم بما فيه من غير تفضيل.
ويروى عن بشار أنه وصف نفسه بجودة الشعر والتقدم على غيره، فقيل له:
ولم ذاك؟ فقال: لأني نظمت اثني عشر ألف قصيدة وما تخلو واحدة منهن من بيت واحد جيد، فيكون لي حينئذ اثنا عشر ألف بيت؛ وقد تأملت هذا القول فوجدته على بشار لا له؛ لأن باقلا الذي يضرب به المثل في العي لو نظم قصيدا لما خلا من بيت واحد جيد، ومن الذي ينظم قصيدا واحدا من الشعر ولا يسلم له منه بيت واحد؟! لكن كان الأولى ببشار أن قال: لي اثنتا عشرة ألف قصيدة ليس واحدة منهن إلا وجيدها أكثر من رديئها، وليس في واحدة منهم ما يسقط؛ فإنه لو قال ذلك وكان محقا لاستحق التقدم على الشعراء، ومع هذا فقد وصل إليّ ما في أيدي الناس من شعره مقصّدا ومقطّعا فما وجدته بتلك الغاية التي ادعاها، لكن وجدت جيده قليلا بالنسبة إلى رديئة، وتندر له الأبيات اليسيرة.
وبلغني عن الأصمعي وأبي عبيد وغيرهما أنهم قالوا: هو أشعر الشعراء المحدثين قاطبة، وهم عندي معذورون؛ لأنهم ما وقفوا على معاني أبي تمام، ولا على معاني أبي الطيب، ولا وقفوا على ديباجة أبي عبادة البحتري، وهذا الموضع لا يستفتى فيه علماء العربية، وإنما يستفتى فيه كاتب بليغ، أو شاعر مفلق؛ فإنّ أهل كل علم أعلم به، وكما لا يسأل الفقيه عن مسألة حسابية فكذلك لا يسأل الحاسب عن مسألة فقهية، وكما لا يسأل أيضا النحوي عن مسألة طيبة فكذلك لا يسأل الطبيب عن مسألة نحوية، ولا يعلم كل علم إلا صاحبه الذي قلب ظهره لبطنه وبطنه لظهره.
على أن علم البيان من الفصاحة والبلاغة محبوب إلى الناس قاطبة، ما من أحد إلّا ويحبّ أن يتكلم فيه، حتى إني رأيت أجلاف العامة ممن لم يخطّ بيده