للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورأيت أغتام الأجناس ممن لا ينطق بالكلمة صحيحة، كلهم يخوض في فن الكتابة والشعر، ويأتون فيه بكل مضحكة، وهم يظنون أنهم عالمون به، ولا لوم عليهم فإنه بلغني عن ابن الأعرابي وكان من مشاهير العلماء- أنه عرض عليه أرجوزة أبي تمام اللامية التي مطلعها:

وعاذل عذلته؟ في عذله

وقيل له: هذه لفلان، من شعراء العرب، فاستحسنها غاية الاستحسان، وقال: هذا هو الديباج الخسرواني، ثم استكتبها، فلما أنهاها قيل له: هذه لأبي تمام؛ فقال:

من أجل ذلك أرى عليها أثر الكلفة، ثم ألقى الورقة من يده، وقال: يا غلام، خرّق، فإذا كان ابن الأعرابي مع علمه وفضله لا يدري أيّ طرفيه أطول في هذا الفن ولا يعلم أين يضع يده فيه ويبلغ به الجهل إلى أن يقف مع التقليد الشنيع الذي هذا غايته فما الذي يقول غيره؟! وما الذي يتكلم فيه سواه؟! والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريرا والأخطل أشعر العرب أولا وآخرا، ومن وقف على الأشعار ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت اليه، ولا ينبغي أن يوقف مع شعر امريء القيس وزهير والنابغة والأعشى؛ فإن كلا من أولئك أجاد في معنى اختص به، حتى قيل في وصفهم: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا شرب؛ وأما الفرزدق وجرير والأخطل فإنهم أجادوا في كل ما أتوا من المعاني المختلفة، وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون، وهم: أبو تمام، وأبو عبادة البحتري، وأبو الطيب المتنبي؛ فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء، أما أبو تمام وأبو الطيب فربّا المعاني، وأمّا أبو عبادة فربّ الألفاظ في ديباجتها وسبكها.

وبلغني أن أبا عبادة البحتري سأل ولده أبا الغوث عن الفرزدق وجرير أيهما أشعر، فقال: جرير أشعر، قال: وبم ذلك؟ قال: لأن حوكه شبيه بحوكك، قال:

ثكلتك أمك! أو في الحكم عصبية؟ قال: يا أبت، فمن أشعر؟ قال: الفرزدق، قال: وبم ذاك؟ قال: لأن أهاجي جرير كلها تدور على أربعة أشياء: هي القين، والزنا، وضرب الرومي بالسيف، والنفي من المسجد، ولا يهجو الفرزدق بسوى

<<  <  ج: ص:  >  >>