للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استهداء الرطب، وجعلت بعضه آخذا برقاب بعض، حتى كأنه أفرغ في قالب واحد؟ وكذلك فليكن التخلص من معنى إلى معنى.

وهذا القدر من الأمثلة كاف للمتعلم.

ومما أستظرف من هذا النوع في الشعر قول ابن الزمكرم الموصلي، وهو:

وليل كوجه البرقعيديّ مظلم ... وبرد أغانيه وطول قرونه

سريت ونومي فيه نوم مشرّد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه

على أولق فيه التفات كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه

إلى أن بدا ضوء الصّباح كأنّه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه

وهذه الأبيات لها حكاية، وذاك أن هذا الممدوح، وهو شرف الدولة قرواش ملك العرب، وكان صاحب الموصل؛ فاتفق أنه كان جالسا مع ندمائه في ليلة من ليالي الشتاء، وفي جملتهم هؤلاء الذين هجاهم الشاعر، وكان البرقعيدي مغنيا، وسليمان بن فهد وزيرا، وأبو جابر حاجبا، فالتمس شرف الدولة من هذا الشاعر أن يهجو المذكورين ويمدحه؛ فأنشد هذه الأبيات ارتجالا، وهي غريبة في بابها: لم يسمع بمثلها، ولم يرض قائلها بصناعة التخلص وحدها، حتى رقي في معانيه المقصودة إلى أعلى منزلة، فابتدأ البيت الأول يهجو البرقعيدي؛ فجاءه في ضمن مراده ذكر أوصاف ليل الشتاء جميعها، وهي الظلمة والبرد والطول، ثم إن هذه الأوصاف الثلاثة جاءت ملائمة لما شبهت به مطابقة له، وكذلك البيت الثاني والثالث، ثم خرج إلى المديح بألطف وجه، وأدقّ صنعة، وهذا يسمى الاستطراد، وما سمعت في هذا الباب بأحسن من هذه الأبيات.

ومما يجري على هذا الأسلوب ما ورد لابن الحجاج البغدادي، وهي أبيات لطيفة جدا «١» :

ألا يا ماء دجلة لست تدري ... بأنّي حاسد لك طول عمري

<<  <  ج: ص:  >  >>