للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما ينتظم في هذا العقد ما ذكرته في مفتتح كتاب يتضمن عناية ببعض المتظلمين، فاستطردت فيه المعنى إذ ذكر المكتوب إليه؛ وهو: هدايا المكارم أنفس من هدايا الأموال، وأبقى على تعاقب الأيام والليال، وقد حمل هذا الكتاب منها هدية تورث حمدا وتكسب مجدا، وهي خير ثوابا وخير مردّا، ولا يسير بها إلا سجية طبعت على الكرم، وخلقت من عنصر الدّيم، كسجية مولانا أعلاه الله علوّا تفخر به الأرض على السماء، وتحسده شمس النهار ونجوم الظلماء، ولا زالت أياديه مخجلة صوب الغمام، معدية على نوب الأيام. مغنية بشرف فضلها على شرف الأخوال والأعمام، وتلك الهديّة هي تجريد الشفاعة في أمر فلان ومن إيمان المرء سعيه في حاجة أخيه، وإن لم يمسّه بشيء من أسباب أواخيه؛ فإن المؤمنين إخوة وإن تباينت مناسبهم، وتفاوتت مراتبهم، ومن صفتهم أن يسعى بذمّتهم أدناهم، وخيرهم من عناه من الأمر ما عناهم. ثم مضيت على هذا النهج إلى آخر الكتاب.

ومن ذلك ما كتبته من كتاب إلى صديق استحدثت مودته، وهو من أهل العراق، وكنت اجتمعت به بالموصل ثم سارعنّي، فكتبت إليه أستهديه رطبا؛ فقلت: هذه المكاتبة ناطقة بلسان الشوق الذي تزف كلمه زفيف الأوراق، وتسجع سجع ذوات الأطواق، وتهتف وهي مقيمة بالموصل فتسمع من هو مقيم بالعراق، وأبرح الشوق ما كان عن فراق غير بعيد، وودّ استجدت حلته واللذة مقترنة بكل شيء جديد، وأرجو ألّا يبلى قدم الأيام لهذه الجدة لباسا، وأن يعاذ من نظرة الجن والإنس حتى لا يخشى جنة ولا بأسا، وقد قيل: إن للمودّات طعما كما أن لها وسما، وإن ذا اللب يصادق نفسا قبل أن يصادق جسما، وإني لأجد لمودّة سيدنا حلاوة يستلذ دوامها، ولا يمل استطعامها، وقد أذكرتني الآن بحلاوة الرطب الذي هو من أرضها، وغير عجيب لمناسبة الأشياء أن يذكّر بعضها ببعضها، إلا أن هذه الحلاوة تنال بالأفواه وتلك تنال بالأسرار، وفرق بين ما يغترس بالأرض وما يغترس بالقلب في شرف الثمار؛ فلا ينظر سيدنا عليّ في هذا التمثيل، ولربما كان ذلك تعريضا ينوب مناب التطفيل.

وهذا من التخلصات البديعة؛ فانظر أيها المتأمل كيف سقت الكلام إلى

<<  <  ج: ص:  >  >>