للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم أَوقفته على الرُّقعة التي كتبها عَمرو، وحدَّثته الحديثَ عن آخره، فقال: واللهِ ما أدري أيُّكما أعجب، أَعمرٌو حيث شكر بِرَّك فطاب نفسًا بالخروج من جميع ما يملكه بهذا السَّبب! أم أنت ومحافظتُك على أهل النِّعم وسَترك عليهم في ذلك الوقت! واللهِ لا كنتما يا نَبَطِيَّان أكرمَ مني، قد وهبتُ له الكلّ، ومزَّق الرُّقعتين اللتين بخطِّ عَمرٍو بعشرة آلاف ألفِ درهم، والتي بثلاثة آلافِ ألفِ درهم، وبعث بعَمرٍو إلى داره مكرَّمًا.

وقال عيسى بنُ عبَّاد (١): دعاني المأمونُ يومًا فدفع إليَّ كتابًا مختومًا وقال: اذهب إلى عَمرو بنِ مَسعدةَ وناظرْه على ما في هذ الكتاب بابًا بَابًا، وخذ خطَّه على كلِّ باب بحجَّة، واختمه بخاتَمي وخاتَمه، ويبقى عندك إلى أن أقولَ لك، ولا تبتدئْني فيها بشيءٍ حتَّى أسألَك.

قال: وكنت شاركت عَمرًا في تلك الأموالِ التي رُفعت علينا، فخفت من ذِكرها في السِّعاية، وأن تكونَ مذكورة في الكتاب، فصرت إلى عَمرٍو وهو جالسٌ يلعب بالشِّطرَنج في بستان، فقلت: لي حديثٌ فأَخْلِني، فقال: دعني أُتمِّم دَسْتي، فغاظني، فبدَّدتُ الرقعةَ وقلت: قد سأل بنا السَّيلُ وأنت لا تدري، ثم ناولتُه الكتاب، فضحك وقال: ويحك! قد خدمتَ رجلًا مدَّة وأنت لا تعرف أخلاقَه ومذهبَه! أتريد أن أُطلعَك على ما هو أشدُّ من هذا؟ قلت: نعم، فأخرجَ إليَّ رقعةً فيها مثلُ ما في تلك، وقال: هذه لها عندي منذ سنة، كتب إليَّ بأن أفعلَ مثلَ هذا ولم أُخبرك.

قال: فجعلت أُرعَد من الخوف وعَمرٌو يضحك، وأنا أقول: عند اللهِ أحتسب نفسي ونعمتي، فقال عَمرو: أنت مجنون، إنَّ صاحبنا ليس بشَرِه ولا بخيل، ولكنه أراد أن يعرِّفَنا أنَّه قد علم ما صار إلينا من إِنفاق، فقلت: لا بدَّ من الكتابة، فكتب رُقعة، فوجد ما نُسب إليه أربعين ألفَ ألفِ درهم، وما نُسب إليَّ سبعةً وعشرين ألفَ ألفِ درهم، وكَتب في أسفلها: لو قصرت بنا هِمَمُنا عن هذا المقدارِ وسعتنا (٢) منازلنا، ونرجو أن يُطيل الله بقاءَ أميرِ المؤمنين ليصلَ إليا أضعافُ ذلك.


(١) كذا في (خ) و (ف)، وفي الفرج بعد الشدة ٣/ ٤٣: أبو عباد. وقال محقِّقه: هو ثابت بن يحيى بن يسار، كاتب المأمون ووزيره.
(٢) في (خ): ما وسعتنا، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في الفرج بعد الشدة.