للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عليه، وإن كان على شيء من الدنيا فاتكِ؛ فها نحن وأموالُنا وأهلونا بين يديك. فبكت وقالت: واللهِ ما أَسَفي على شيء من الدنيا، ولكني رأيتُ منه ليلة منظرًا هالني، فعلمتُ أن الذي أخرجه إلى الذي رأيتُ منه هولٌ عظيم، قد أسكنَ في قلبه معرفته. قالا: وما رأيت منه؟ قالت: رأيتُه ذات ليلة قائمًا يصلِّي، فأتى على هذه الآية: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة: ٤ - ٥] فجعل يردِّدُها حتَّى طلع الفجر، ويقول: ويلي من يومٍ يكونُ النَّاسُ فيه كالفراش المبثوث. فلما طلع الفجر سقط كأنَّه ميِّت، فلم يُفِقْ حتَّى جاءه المؤذّن يؤذنُه بالصلاة، فقام فَزِعًا، فواللهِ ما ذكرتُ ليلته تلك إلَّا أصابني ما رأيتُم، فلم أملك ردَّ عَبْرَتي (١).

قال أبو سريع الشَّاميّ: لما مات عمر جاءت الفقهاء إلى فاطمة يسألونها عن حاله، فقالت: واللهِ لو كان حيًّا لما أخبرتُكم، إنه كان قد فَرَّغ نفسه للنَّاس، يقعدُ لهم يومَه، فإذا أمسى وعليه بقيةٌ من حوائج النَّاس؛ وصلَ يومَه بليلته، فإذا فَرَغَ من الحوائج؛ دعا بسراج من ماله، ثم قام يصلّي ما شاء الله، فإذا فَرَغَ من صلاته وضع رأسَه على يده ودموعه تسيل على خدِّه يشهق شهقةً، فأقول: قد انصدعت كبده. فلا يزال كذلك حتَّى يصبح، فيظلُّ صائمًا، فأقول له: ارفق بنفسك. فيقول: يا بنت عبد الملك، دعيني وشأني، وعليكِ بشأنِك. فأقول: أرجو أن أتَّعظ. فيقول: إذن أخبرك. إنِّي نظرتُ إليَّ، فوجدتُني قد وَليتُ أمرَ هذه الأمة؛ صغيرِها وكبيرِها أبيضِها وأسودِها وأحمرِها، ثم ذكرتُ الغريب المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم في أقاصي الأرض وأطراف البلاد، فعلمتُ أن الله سائلي عنهم، وأنَّ محمدًا حجيجي فيهم، فخفتُ أن لا يثبت لي عند الله عذر، ولا يقوم لي عند نبيِّه حُجَّة، وكلَّما ذكرتُ هذا ازدَدْتُ خوفًا ووجلًا (٢).

وقال ابنُ أبي الدنيا: أرسلَ ملكُ الروم [رسالة] إلى عمر [بن عبد العزيز]، فبعثَ بجوابها مع محمَّد بن معبد وبعثَ معه أُسارى من الروم، ليفاديَ بهم أُسارى من المسلمين.


(١) بنحوه في "المنتظم" ٧/ ٧٢.
(٢) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" ٥٤/ ١٦٠ عن عطاء، وقد أخرجه ابن عساكر فيه من طريق ابن أبي الدنيا.