لِمَا يَسْتَبْقِيهِ الرَّجُلُ مِمَّا يُخْرِجُهُ، وَهُوَ لَا يَسْتَبْقِي إِلَّا أَجْوَدَهُ وَأَفْضَلَهُ، فَصَارَ لَفْظُ الْبَقِيَّةِ مَثَلًا فِي الْجَوْدَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي: إِلَّا قَلِيلًا مُنْقَطِعٌ أَيْ: لَكِنْ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ:
هُوَ مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ فِي حَرْفِ التَّحْضِيضِ مَعْنَى النَّفْيِ، فكأنه قال: ما كان في القرون أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ، وَمَنْ فِي مِمَّنْ أَنْجَيْنَا، بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُنَجَّ إِلَّا النَّاهُونَ قِيلَ: هَؤُلَاءِ الْقَلِيلُ هُمْ قَوْمُ يُونُسَ لقوله فيما مر: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ وَقِيلَ: هُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلُ الْحَقِّ مِنَ الْأُمَمِ عَلَى الْعُمُومِ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ معطوف على مقدّر الْكَلَامُ، تَقْدِيرُهُ: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ نَهَوْا عَنِ الْفَسَادِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا- بِسَبَبِ مُبَاشَرَتِهِمُ الْفَسَادَ وَتَرْكِهِمْ لِلنَّهْيِ عَنْهُ- مَا أُتْرِفُوا فِيهِ.
وَالْمُتْرَفُ: الَّذِي أَبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ، يُقَالُ صَبِيٌّ مُتْرَفٌ: مُنَعَّمُ الْبَدَنِ، أَيْ: صَارُوا تَابِعِينَ لِلنِّعَمِ الَّتِي صَارُوا بِهَا مُتْرَفِينَ مِنْ خِصْبِ الْعَيْشِ وَرَفَاهِيَةِ الْحَالِ وَسِعَةِ الرِّزْقِ، وَآثَرُوا ذَلِكَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَعْمَالِ الْآخِرَةِ وَاسْتَغْرَقُوا أَعْمَارَهُمْ فِي الشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا تَارِكُو النَّهْيِ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ خُرُوجَ مُبَاشِرِي الْفَسَادِ عَنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهُمْ أَشَدُّ ظُلْمًا مِمَّنْ لَمْ يُبَاشِرْ، وَكَانَ ذَنْبُهُ تَرْكَ النَّهْيِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ: أُتْبِعُوا جَزَاءَ مَا أُتْرِفُوا فِيهِ، وَجُمْلَةُ: وَكانُوا مُجْرِمِينَ مُتَضَمِّنَةٌ لِبَيَانِ سَبَبِ إِهْلَاكِهِمْ، وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى أُتْرِفُوا، أَيْ: وَكَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُتْبِعُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ مُجْرِمِينَ، وَالْإِجْرَامُ: الْأَثَامُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ أهل إجرام بسبب اتباعهم الشهوات بِهَا عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي يَحِقُّ الِاشْتِغَالُ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَكانُوا مُجْرِمِينَ مَعْطُوفَةً عَلَى وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيِ: اتَّبَعُوا شَهَوَاتِهِمْ وَكَانُوا بِذَلِكَ الِاتِّبَاعِ مُجْرِمِينَ وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ أَيْ: مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ يُهْلِكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْقُرَى بِظُلْمٍ يَتَلَبَّسُونَ بِهِ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَالْحَالُ أَنَّ أَهْلَهَا مُصْلِحُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي تَعَاطِي الْحُقُوقِ لَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ شَيْئًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ بِمُجَرَّدِ الشِّرْكِ وَحْدَهُ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِنَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَبَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَأَهْلَكَ قَوْمَ لُوطٍ بِسَبَبِ ارْتِكَابِهِمْ لِلْفَاحِشَةِ الشَّنْعَاءِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: بِظُلْمٍ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَ الْقُرَى ظَالِمًا لَهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُصْلِحِينَ غَيْرَ مُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ تَنْزِيهَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ صُدُورِ ذَلِكَ مِنْهُ بِلَا سَبَبٍ يُوجِبُهُ عَلَى تَصْوِيرِ ذَلِكَ بِصُورَةِ مَا يَسْتَحِيلُ مِنْهُ، وَإِلَّا فَكَلُّ أَفْعَالِهِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ لَا ظُلْمَ فِيهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ أَحَدًا وَهُوَ يَظْلِمُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى نِهَايَةِ الصَّلَاحِ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي مُلْكِهِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً «١» وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ لِيُهْلِكَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ: أَيْ مُخْلِصُونَ فِي الْإِيمَانِ، فَالظُّلْمُ الْمَعَاصِي عَلَى هَذَا. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ: أَهْلَ دِينٍ وَاحِدٍ، إِمَّا أَهْلَ ضَلَالَةٍ، أَوْ أَهْلَ هُدًى وَقِيلَ مَعْنَاهُ: جَعَلَهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْحَقِّ غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ فِيهِ، أَوْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ دُونَ سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا قَالَ وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى، أَوْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ أَوْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: مُخْتَلِفِينَ فِي الرِّزْقِ: فَهَذَا غَنِيٌّ، وَهَذَا فَقِيرٌ.
(١) . يونس: ٤٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute