للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

غيره، لدقة أحاسيسه، ورفاهية مشاعره، وكيف يغيب البدري عن وجوده، ويتجرَّد من وجدانه المتحجّر أمام العروس التي ترتدي أجمل حللها من الزهور، وتميس في روضة أخاذة فتنة ودلالًا وتيهًا:

فذاك القول لا يرمي لعزتها ... ولا يقول به يا صاح يقظان

وليس قولك يخفي من محاسنها ... فالناس تعرفها أيان ما كانوا

هي الجمال هي المصطاف يقصدها ... من كل صقع مدى الأزمان إخوان١

فيها القرى "والصفيح" الغض منظره ... في سوحها الخشع والصفر والبان

فكيف أغضيت طرفًا من محاسنها ... أما استمال القوافي منك وجدان

وقلت في لهجة الملهوف من كمد ... على زمان مضى فيها له شان

فما رأينا بها وردًا ولا زهرًا ... وإنما هي أطلال وكثبان

وما إخالك تدري عن مرابعها ... ولا يتوق إليها منك تبيان

فقد حكمت بقول ند مضربه ... كأنما قلته والقول حيران

قد تنكر العين نور الشمس من وسن ... وما عليه إذا ما غط وسنان

وفي النهاية يطلق الحكم على البدري توقيعًا يتردد بموسيقاه العذبة في جوانب الدنيا، لتظل أبها كما كانت بين بطاح الأرض منتجعًا لعشاق الطبيعة، وتاريخًا حافلًا بالمجد والشهرة، التي طبقت الآفاق بأشجارها وغاباتها وأزهارها وربوعها وألبانها:

ولكن كفتك بطاح الأرض منتجعًا ... عن مجد "أبها" وفي ذرواتها البان٢

تلك هي الطبيعة في شعر زاهر، يدافع عنها، ويحمي ذمارها، ويخوض المعارك في سبيلها؛ لأنه يثور إن أساء إليها أحد، أو نال من شرف الجمال فيها، أو خاض بالباطل في عرصاتها ومجاليها، فذلك اعتداء سافر على خدرها الجميل، وكيف لا يثور ويغصب، ويتفجَّر بركانًا وشعرًا، وهو الهائم بالطبيعة وبسحر الحياة فيها، المتيم بما وراء الأزهار والأشجار من أسرار وعجائب، والمأخوذ بما خلف الأغاريد والأنغام من دفائن، والمنساب من رقة النسيم الحاني والعطوف، فتتفتح له أكمام الأزهار باسمة لتفصح عن وجدان الشاعر، الذي اهتز لأسرار تجمّدت بها مشاعر الموتى والمتحجرين وغابت عنها عقول الحيارى النائمين.

قد تنكر العين نور الشمس من وسن ... وما عليه إذا ما غط وسنان


١ ما بين الأقواس أسماء لأحياء في أبها
٢ ضرب من الشجر في أبها واحدة: بانة

<<  <   >  >>