هذا الظهور في عداوة الإنس للرسل جعلهم أصلاء في هذا المقام جديرين
بالتقديم فيه.
أما عداوة الجن للرسل فهى مساع وحيل متخفية، يدركها العقل ولا تدركها
الحواس، فهى - بهذا الاعتبار - تأتي في المرحلة الثانية بعد عداوة الإنس
للرسل والتمرد عليهم وقتلهم.
فالتقديم - إذن - ليس للتشريف. بل لأن المقدَّم أكبر شأناً من حيث اتصاله
بالحقيقة التي سيق من أجلها الكلام.
الموضع الثاني: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
وفي هذا الموضع قُدمت الجنة على الناس. لأن المقام يقتضي ذلك. المقام هنا
وسوسة خفية. وإغراء متسَتر، والجن - حيث يروننا ولا نراهم - أقدر على هذه الوسوسة، وهي بهم أليق. إغراء خفى. ومغر أشد خفاء. على هذا النهج الذي خرجنا عليه المثالين يجب أن نفهم التقديم والتأخير في هذه المواضع وما أشبهها. لا على ما ذهب إليه ابن الصائغ لأنه يحجر على التذوق الحر، والبحث الجاد في توجيه الظواهر الفنية.
وهو أمر ليس بمقبول.
أما تقديم السمع على العلم. فذلك - فيما أرى - من باب تقديم السبب على السبب لأن السمع سبب من أسباب العلم، أو من تقديم الخاص على العام.
وأما تقديم السمع على القُرب في الموضع المذكور فهو لا يبعد أن يكون من
قبيل الترتيب الطبيعي بين الأشياء، لأن مَن يُدعى فيستجيب يقرب من الداعي الذي دعاه.
ويرى ابن الصائغ أن تقديم " هارون " على موسى، وموسى أشرف من
هارون، إنما هو مخالف للأصل.
وعزاه إلى مراعاة الفواصل.
وقد رددنا على هذه الشُّبهة من قبل في مبحث الفواصل.
*