وَلَا يُلْحِقُهُ بِأَهْلِ التَّرَفُّهَاتِ (وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ أَيْ جَعَلَهُ قَانِعًا بِمَا أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَلَمْ يَطْلُبْ الزِّيَادَةَ لِمَعْرِفَةِ أَنَّ رِزْقَهُ مَقْسُومٌ لَنْ يَعْدُوَ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
عَزِيزُ النَّفْسِ مَنْ لَزِمَ الْقَنَاعَهْ ... وَلَمْ يَكْشِفْ لِمَخْلُوقٍ قِنَاعَهْ
أَنَالَتْهُ الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍّ ... وَهَلْ عِزٌّ أَعَزُّ مِنْ الْقَنَاعَهْ
فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِك رَأْسَ مَالٍ ... وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ
(م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُوتَ» هُوَ قَدْرُ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ.
وَقِيلَ الْكِفَايَةُ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ «آلِ مُحَمَّدٍ» لَعَلَّك عَرَفْت مَعْنَى الْآلِ فِيمَا قَبْلُ «كَفَافًا» قَدْرَ كِفَايَةٍ بِلَا زِيَادَةٍ، وَلَا نُقْصَانٍ أَوْ مَا يَقُوتُهُمْ وَيَكْفِيهِمْ بِحَيْثُ لَا يُشَوِّشُهُمْ الْجَهْدُ، وَلَا تُرْهِقُهُمْ، وَلَا تُذِلُّهُمْ الْمَسْأَلَةُ وَالْحَاجَةُ، وَلَا يَكُونُ فُضُولًا مُوجِبًا لِلسَّرَفِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الدُّنْيَا وَالرُّكُونِ إلَيْهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى زُهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى تَقَلُّلِهِ مِنْهَا، وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ إنَّ الْكَفَافَ أَفْضَلُ مِنْ الْفَقْرِ وَالْغِنَى كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُفْهِمِ شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ عِنْدَ تَكَلُّمِ النَّاسِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُعْطَى الرَّجُلُ كِفَايَتَهُ ثُمَّ يُصَانَ فِيهَا وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْجَامِعِ «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وَقَنَعَ بِهِ» قَالَ فِي الْفَيْضِ سَلَكَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرِيقَ الِاقْتِصَادِ الْمَحْمُودِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ تُلْهِي، وَقِلَّتَهُ تُنْسِي فَمَا قَلَّ مِنْهُ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَفِي دُعَاءِ الْمُصْطَفَى بِهِ إرْشَادٌ لِأُمَّتِهِ كُلَّ الْإِرْشَادِ إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكَفَافِ بِكَثِيرٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْعَبَ الْعَاقِلُ فِي طَلَبِهَا لِكَوْنِهَا لَا خَيْرَ فِيهَا، وَحُكْمُ الْكَفَافِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَادُ الرِّيَاضَةَ حَتَّى أَنَّهُ يَأْكُلُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً فَكَفَافُهُ، وَقُوَّتُهُ تِلْكَ الْمَرَّةُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَادُ الْأَكْلَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَكَفَافُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهُ فَتَرَ وَمِنْهُمْ كَثِيرُ الْعِيَالِ فَكَفَافُهُ مَا يَسُدُّ عِيَالَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ عِيَالُهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةٍ فَقَدْرُ الْكِفَايَةِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَمِقْدَارُهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَكِنَّ الْمَحْمُودَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْقِوَامُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ.
وَقَوْلُهُ «إنِّي أَسْأَلُك غِنَايَ وَغِنَى مَوْلَايَ» الْمُرَادُ غِنًى يَدْفَعُ الْفَاقَةَ فَقَطْ فَلَا يُخَالِفُهُ مَا هُنَا، وَقَوْلُهُ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِك عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي» لَمْ يُرِدْ بِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى الْكَفَافِ. انْتَهَى. وَكَذَا قَوْلُهُ «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَتَوَفَّنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» (ت عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَيْسَتْ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَا إضَاعَةِ الْمَالِ» بِبَذْلِهِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي «، وَلَكِنَّ الزُّهْدَ أَنْ تَكُونَ» أَيُّهَا الْعَاقِلُ «بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ» فِي خَزَائِنِ وَعْدِهِ وَقِسْمَتِهِ «أَوْثَقَ مِنْك بِمَا فِي يَدِك» ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِك يَنْقُصُ بِالْإِنْفَاقِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ غَايَةٌ فَوُثُوقُك بِمَا عِنْدَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ وُثُوقِك بِمَا فِي يَدِك، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا عِنْدَ كَيْنُونَةِ مَجِيءِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا عِنْدَك سِيَّيْنِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْبِسْطَامِيَّ قَالَ مَا غَلَبَنِي أَحَدٌ سِوَى شَابٍّ مِنْ أَهْلِ بَلْخٍ قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا فَقَالَ يَا أَبَا يَزِيدَ مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ قُلْت إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا، وَإِذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا فَقَالَ هَكَذَا كِلَابُ بَلْخٍ قُلْت فَمَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ قَالَ إذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا، وَإِذَا وَجَدْنَا آثَرْنَا قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ، وَقِيلَ مَنْ صَدَقَ فِي زُهْدِهِ أَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً؛ وَلِهَذَا قِيلَ لَوْ سَقَطَتْ قَلَنْسُوَةٌ مِنْ السَّمَاءِ لَمَا وَقَعَتْ إلَّا عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا يُرِيدُهَا، وَفِيهَا أَيْضًا مَنْ تَكَلَّمَ فِي الزُّهْدِ وَوَعَظَ النَّاسَ ثُمَّ رَغِبَ فِي أَمْوَالِهِمْ رَفَعَ اللَّهُ حُبَّ الْآخِرَةِ مِنْ قَلْبِهِ.
وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ الزَّاهِدُ يَذْهَبُ كِيسُهُ قَبْلَ نَفْسِهِ وَالْمُتَزَهِّدُ يَذْهَبُ نَفْسُهُ قَبْلَ كِيسِهِ قِيلَ جَعَلَ اللَّهُ الشَّرَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute