للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاسْتَدْعَى قَالَ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْك طَاعَتَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّفْلِ مِنْهُمَا، وَالْفَرْضِ مِنْهُمَا لِمَنْ أَتَى بِهِمَا (الْآيَاتُ) أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ أَوْ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ هِيَ مَا سَيَذْكُرُ. اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ قَالَ بَعْضٌ الْمَذْكُورُ مُبْتَدَأٌ، وَالْمَحْذُوفُ خَبَرٌ إذْ الْمُبْتَدَأُ ذَاتٌ وَأَصْلٌ، وَالْخَبَرُ وَصْفٌ تَابِعٌ لَهُ قَالَ بَعْضٌ عَكْسَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِفَادَةِ هُوَ الْخَبَرُ وَرُجِّحَ هَذَا كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: ١٨] أَيْ أَمْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ أَوْ صَبْرٌ جَمِيلٌ أَجْمَلُ

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ فَضْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْأَدِلَّةِ هُوَ فَضْلُ الْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَمَلِ كَمَا سَيَظْهَرُ بَلْ بَعْضُهَا لَا يُخَصُّ بِالْعِلْمِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ أَيْضًا كَمَا سَيَظْهَرُ أَيْضًا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ كَوْنَ الْمَطْلُوبِ مُطْلَقَ الْفَضْلِ أَوْ تُؤَوَّلُ الْأَدِلَّةُ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ الْإِضَافِيِّ وَلَوْ خِلَافَ الظَّاهِرِ ثُمَّ الْآيَاتُ إحْدَى عَشَرَةَ الْأُولَى مِنْ الْبَقَرَةِ.

{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: ٣١] لَمَّا فَهِمَ الْمَلَائِكَةُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: ٣٠]- فَضْلَ الْخَلِيفَةِ عَلَيْهِمْ تَعَجَّبُوا وَاسْتَعْظَمُوا. وَأَجَابَ تَعَالَى أَوَّلًا إجْمَالًا بِقَوْلِهِ {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٣٠] وَثَانِيًا تَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة: ٣١] حَاصِلُهُ رَاجِعٌ إلَى بَيَانِ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ عِلْمِ الْخَلِيفَةِ يَعْنِي مَا لَا يَعْلَمُونَ فَضْلَ آدَمَ عَلَيْهِمْ إلَى أَنْ سَجَدُوا لَهُ بِالْعِلْمِ فَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ فَضْلُ الْعِلْمِ وَشَرَفِهِ لَكِنْ فِي نَفْسِهِ لَا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعَمَلِ كَمَا نَبَّهَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ بِمَحْضِ فَضْلِهِ تَعَالَى لَا بِكَسْبِهِ وَإِتْعَابِهِ الَّذِي هُوَ مَدَارُ الْفَضْلِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْإِسْنَادِ وَكَوْنُ التَّعْلِيمِ عَلَى خَلُقَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ كَمَا سَيُشَارُ إلَيْهِ فَمَا وَجْهُ التَّفْضِيلِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ تَوَقُّفِ الْفَضْلِ عَلَى مَدْخَلِيَّةِ الْفَاضِلِ فِي حُصُولِ الْفَضْلِ قَالُوا: إنَّ إفَاضَةَ الْعِلْمِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى اسْتِعْدَادِ الْمُتَعَلِّمِ لِقَبُولِ الْفَيْضِ وَتَلَقِّيه مِنْ جِهَتِهِ كَمَا قَالُوا أَيْضًا تَأْثِيرُ الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِعْدَادِ الْعِلَّةِ الْقَابِلِيَّةِ.

قَالَ أَبُو السُّعُودِ فِي تَفْسِيرِهِ: وَبِهِ يَظْهَرُ أَحَقِّيَّتَهُ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُمْ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّ جِبِلَّتَهُمْ غَيْرُ مُسْتَعِدَّةٍ لِإِحَاطَةِ تَفَاصِيلِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَادِّيَّةِ. ثُمَّ هَذَا التَّعْلِيمُ بِخَلْقِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَالْإِلْهَامِ فِي قَلْبِهِ وَإِلْقَائِهِ فِي رَوْعِهِ مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ وَخَوَاصِّهَا وَأَسْمَائِهَا وَأُصُولِ الْعُلُومِ وَقَوَانِينِ الصِّنَاعَاتِ وَكَيْفِيَّةِ آلَاتِهَا كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْقَصْعَةَ قِيلَ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ فَاللُّغَاتُ الْمُتَخَالِفَةُ فِي أَوْلَادِهِ كُلِّهَا إنَّمَا أُخِذَتْ عَنْهُ وَقِيلَ اسْمَ كُلِّ مَا كَانَ وَسَيَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة: ٣١] الضَّمِيرُ لِلْمُسَمَّيَاتِ الْمَدْلُولَةِ ضِمْنًا أَوْ الْتِزَامًا.

وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ وَكَذَا جَانِبُ الذُّكُورِ قِيلَ مَعْنَى الْعَرْضِ: الْإِظْهَارُ {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} [البقرة: ٣١] أَخْبِرُونِي {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة: ٣١] الْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ كَمَا فِي {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة: ٢٣] تَبْكِيتًا لَهُمْ فِيمَا اعْتَقَدُوا مِنْ اسْتِحْقَاقِهِمْ الْخِلَافَةَ وَإِظْهَارًا لِحِكْمَةِ إيثَارِ الْخِلَافَةِ لِآدَمَ مِنْ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ فَأَوْلَى بِالْخِلَافَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ، وَالتَّصَرُّفَ الَّذِي تَقْتَضِيه الْخِلَافَةُ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْخَلِيفَةِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ زَمَانِهِ نَعَمْ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ لَا يُنَافِي الْأَوْلَوِيَّةَ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: ٣١] فِي اعْتِقَادِ أَنَّكُمْ أَحِقَّاءُ لِلْخِلَافَةِ مِنْ الْخَلِيفَةِ الْمَوْعُودِ عَلَى مَا لَزِمَ مَقَالُهُمْ {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: ٣٢] اعْتِرَافٌ بِعَجْزِهِمْ وَإِيذَانٌ بِأَنَّ سُؤَالَهُمْ لَيْسَ سُؤَالَ اعْتِرَاضٍ بَلْ اسْتِفْسَارٌ وَبَيَانٌ لِفَضْلِ الْإِنْسَانِ الَّذِي خَفِيَ عَلَيْهِمْ، وَإِظْهَارٌ لِشُكْرِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَمُرَاعَاةً لِلْأَدَبِ بِتَفْوِيضِ الْعِلْمِ كُلِّهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} [البقرة: ٣٢] فِيهِ تَحْقِيقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٣٠] {الْحَكِيمُ} [البقرة: ٣٢] كُلُّ فِعْلِك عَلَى حِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>