للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْحُدُوثِ وَهَذِهِ حَادِثَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَقْسَامُ الْعَالَمِ إذْ هُوَ إمَّا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالثَّانِي الْعَرَضُ وَالْأَوَّلُ وَيُسَمَّى بِالْعَيْنِ وَهُوَ مَحَلُّ الثَّانِي الْمُقَوِّمِ لَهُ إمَّا مُرَكَّبٌ وَهُوَ الْجِسْمُ أَوْ غَيْرُ مُرَكَّبٍ وَهُوَ الْجَوْهَرُ، وَقَدْ يُقَيَّدُ بِالْفَرْدِ (وَلَمْ يَزَلْ وَحْدَهُ وَلَا مَكَانَ وَلَا زَمَانَ وَلَا قُطْرَ وَلَا أَوَانَ) هَذَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ إذْ الْقُطْرُ مَكَانٌ مَخْصُوصٌ كَالْبَلَدِ وَالْأَوَانُ زَمَانٌ مَخْصُوصٌ كَزَمَانِ الزَّرْعِ وَالدَّاعِي إلَى الْعَطْفِ الْخَطَابَةُ فِي التَّنْزِيهِ أَيْ هُوَ مَوْجُودٌ وَحْدَهُ قَبْلَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُمَا.

(ثُمَّ

ــ

[حاشية العطار]

كَلَامٌ خَطَابِيٌّ بَلْ شِعْرِيٌّ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى امْتِنَاعِهَا بِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَعَالَى لَيْسَتْ بَدِيهِيَّةً وَالرَّسْمُ لَا يُفِيدُ الْكُنْهَ وَالْحَدُّ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّهُ بَسْطٌ وَوَجْهُ ضَعْفِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْبَسَاطَةَ الْعَقْلِيَّةَ مُحْتَاجَةٌ إلَى الْبُرْهَانِ وَعَدَمُ إفَادَةِ الرَّسْمِ الْكُنْهَ لَيْسَ كُلِّيًّا إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ إفَادَتِهِ الْكُنْهَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَادِّ وَعَدَمُ الْبَدَاهَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ مُحْتَاجٌ إلَى دَلِيلٍ فَرُبَّمَا يَحْصُلُ بِالْبَدِيهَةِ بَعْدَ تَهْذِيبِ النَّفْسِ بِالشَّرَائِعِ الْحَقَّةِ وَتَجْرِيدِهَا عَنْ الْكُدُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْعَلَائِقِ الْجِسْمَانِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى عَدَمِ حُصُولِهَا كَثِيرَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُبْحَانَك مَا عَرَفْنَاك حَقَّ مَعْرِفَتِك» وَقَوْلُهُ «تَفَكَّرُوا فِي آلَائِهِ تَعَالَى وَلَا تَفَكَّرُوا فِي ذَاتِهِ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَقْدِرُوا قَدْرَهُ» . اهـ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ إلَخْ) فِيهِ قِيَاسٌ مِنْ الشَّكْلِ الثَّانِي هَكَذَا الْجَوَاهِرُ وَالْأَعْرَاضُ حَادِثَةٌ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْإِلَهِ بِحَادِثٍ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ بِإِلَهٍ وَيَنْعَكِسُ إلَى لَا شَيْءَ مِنْ الْإِلَهِ بِجَوَاهِرَ أَوْ أَعْرَاضٍ (قَوْلُهُ: الْمُقَوِّمُ لَهُ) أَيْ لِلثَّانِي الَّذِي هُوَ الْعَرَضُ يَعْنِي أَنَّ الْجَوْهَرَ الَّذِي هُوَ الْمَحَلُّ مُقَوِّمٌ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ لِلْعَرَضِ أَيْ أَنَّ وُجُودَ الْجَوْهَرِ هُوَ بِعَيْنِهِ وُجُودُ الْعَرَضِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ حُلُولِ الصُّورَةِ الْجِسْمِيَّةِ فِي الْهَيُولَى عَلَى مَا تَزْعُمُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ تَرَكُّبِ الْجِسْمِ مِنْهُمَا وَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جَوْهَرٌ فَإِنَّ الصُّورَةَ الْجِسْمِيَّةَ عِنْدَهُمْ مُقَوِّمَةٌ لِلْهَيُولَى بِمَعْنَى احْتِيَاجِ الْهَيُولَى إلَيْهَا فِي التَّحَقُّقِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَيْضًا مُحْتَاجَةً إلَيْهَا فِي الْحُلُولِ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي حَوَاشِي مَقُولَاتِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ السِّجَاعِيِّ (قَوْلُهُ: وَقَدْ يُقَيَّدُ بِالْفَرْدِ) أَيْ فَيُقَالُ جَوْهَرٌ فَرْدِيٌّ أَيْ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْقِسْمَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَنَفَاهُ الْحُكَمَاءُ وَلِكُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ أَدِلَّةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا (قَوْلُهُ: لَمْ يَزَلْ وَحْدَهُ) أَيْ مُنْفَرِدًا مُتَوَحِّدًا وَفِي الْيَوَاقِيتِ نَقْلًا عَنْ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ مَنْ أَدْرَجَ فِي حَدِيثِ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ مَا نَصُّهُ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ قَالَ تَعَالَى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: ٢٩] {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} [الرحمن: ٣١] {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [النحل: ٤٠] الْآيَةَ وَشَنَّعَ عَلَى ذَلِكَ وَلَحْنِ التَّعْبِيرِ بِالْآنَ قَالَ وَأَمَّا كَانَ فَانْسَلَخَتْ هُنَا عَنْ الزَّمَانِ اهـ. مُلَخَّصًا.

وَهُوَ مَقَامٌ لِلشَّيْخِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ هَذَا الْقَائِلِ عَلَى حَالِ وِحْدَةِ الْوُجُودِ أَلَا تَرَى قَوْلَ بَعْضِهِمْ الْأَعْيَانُ الثَّابِتَةُ مَا شَمَّتْ رَائِحَةَ الْوُجُودِ

مَنْ لَا وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ ... فَوُجُودُهُ لَوْلَاهُ عَيْنُ مُحَالٍ

قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ الْعُلُومِ الْمُمْكِنُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ هَالِكٌ دَائِمًا، وَقَالَ فِي مِشْكَاةِ الْأَوَارْتَرَقِّي الْعَارِفُونَ مِنْ حَضِيضِ الْمَجَازِ إلَى ذُرْوَةِ الْحَقِيقَةِ فَرَأَوْا بِالْمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ هَالِكًا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ بَلْ هُوَ هَالِكٌ أَزَلًا وَأَبَدًا اهـ.

وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ إشَارَاتِ وِحْدَةِ الْوُجُودِ قَوْله تَعَالَى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: ٥٣] إلَى قَوْلِهِ {مُحِيطٌ} [فصلت: ٥٤] وَثَمَّ مَجَالٌ عَظِيمٌ جَالَتْ فِيهِ جِيَادُ أَفْكَارِ الْعُلَمَاءِ وَالْعَارِفِينَ حَتَّى أَنَّ الْجَلَالَ الدَّوَانِيَّ مَعَ رُسُوخِ قَدَمِهِ فِي الْمَعْقُولَاتِ وَالسَّيِّدَ الشَّرِيفَ الْجُرْجَانِيَّ عَرَّجَا عَلَى مَا عَرَّجَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَذَكَرَهَا الْأَوَّلُ فِي رِسَالَتِهِ الزَّوْرَاءِ وَالثَّانِي فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْأَصْفَهَانِيِّ عَلَى التَّجْرِيدِ رَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ وَفِي الْيَوَاقِيتِ ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنْ الْفُتُوحَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْحَقَّ تَعَالَى مُفْتَقِرٌ فِي ظُهُورِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ إلَى وُجُودِ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّ لَهُ الْغِنَى عَلَى الْإِطْلَاقِ اهـ.

إلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ إنَّ الْأَشْيَاءَ فِي حَالِ عَدَمِهَا كَانَتْ مَشْهُودَةً لَهُ تَعَالَى كَمَا هِيَ مَشْهُودَةٌ لَهُ حَالَ وُجُودِهَا سَوَاءٌ فَهُوَ يُدْرِكُهَا سُبْحَانَهُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي حَقَائِقِهَا حَالَ وُجُودِهَا وَعَدَمِهَا بِإِدْرَاكٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ إيجَادُهُ لِلْأَشْيَاءِ عَنْ فَقْرٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>