أَيْ مُوجَدٌ عَنْ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ أَيْ يَعْرِضُ لَهُ التَّغَيُّرُ كَمَا يُشَاهَدُ، وَكُلُّ مُتَغَيِّرٍ مُحْدَثٌ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ (وَلَهُ صَانِعٌ) ضَرُورَةً أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ (وَهُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ) إذْ لَوْ جَازَ كَوْنُهُ اثْنَيْنِ
ــ
[حاشية العطار]
إنَّ حَمْلَ الْغَيْرِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ بَعِيدٌ عَنْ الْفَهْمِ (قَوْلُهُ: أَيْ مُوجَدٌ عَنْ الْعَدَمِ) هَذَا تَفْسِيرُ الْحُدُوثِ بِاصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا فَوُجِدَ، وَالْفَلَاسِفَةُ لَمَّا قَالُوا بِقِدَمِ الْعَالَمِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ عِنْدَهُمْ فَسَّرُوا الْحُدُوثَ بِالِاحْتِيَاجِ إلَى الْغَيْرِ فَالْحُدُوثُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُجَامِعُ الْقِدَمَ الزَّمَانِيَّ عِنْدَهُمْ وَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ مُخْطِئٌ فَإِنَّهُ قَدِيمٌ بِالنَّظَرِ لِعِلْمِ اللَّهِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قِدَمَهُ بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ يَرْجِعُ لِقَدَمِ الْعِلْمِ نَفْسِهِ، وَأَمْثَالُ هَذَا لَا يُؤْخَذُ بِظَاهِرِهِ (قَوْلُهُ: أَيْ يَعْرِضُ لَهُ التَّغَيُّرُ) بَعْضُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَغَيْرِهِمَا، وَبَعْضُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا شُوهِدَ كَالْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ اخْتَصَرَ الشَّارِحُ الدَّلِيلَ وَكَأَنَّهُ عَوَّلَ عَلَى بَسْطِهِ فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ الْأَعْرَاضَ هِيَ الَّتِي يُشَاهَدُ فِيهَا التَّغَيُّرُ، وَأَمَّا الْأَجْرَامُ فَلِمُلَازَمَتِهَا الْحَادِثَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَاهَدُ تَغَيُّرُ ذَاتِ الْجُرْمِ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ الْعَرَضِ الْحَادِثِ، وَكُلُّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ.
وَأَمَّا صِغَرُ الْأَجْرَامِ وَكِبَرِهَا فَرَاجِعٌ لِتَبَدُّلِ الْأَعْرَاضِ، وَكَذَلِكَ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ وَالذُّبُولُ وَالنَّمَاءُ وَاسْتِحَالَةُ بَعْضِ الْأَجْسَامِ كَالْمَاءِ فِي الْمِلْحِ لَيْسَ انْعِدَامًا حَقِيقِيًّا كُلُّ ذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ وَالْمَبْسُوطَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَنَقَلَ سَيِّدِي يَحْيَى الشَّاوِيُّ عَنْ الْخَفَّافِ فِي شَرْحِ عَقِيدَةِ أَبِي عَمْرٍو أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ فِي حُكْمِ الْجُرْمِ أَنْ يَرَى الْجُرْمَ كَذَا وَكَذَا، فَتَغَيُّرُ الْأَحْكَامِ بِظُهُورِ الْأَعْرَاضِ فِي الذَّوَاتِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَبِعَدَمِ ظُهُورِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي الْمُشَاهَدَةِ مِنْ حَيْثُ الْأَحْكَامُ وَهِيَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ضَرُورِيَّةٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْعُقَلَاءُ إنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي كَوْنِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ هَذَا عَنْ عَدَمِ مَحْضٍ أَوْ عَنْ كَوْنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَبِهِ يَسْقُطُ قَوْلُ مَنْ قَالَ لَوْ كَانَ التَّغَيُّرُ مُشَاهَدًا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنَّهُ عَنْ كَوْنٍ وَقَدْ ذَكَرَ مُنْلَا جَامِي فِي الدُّرَّةِ الْفَاخِرَةِ بُرْهَانًا لَطِيفًا مُخْتَصَرًا فَقَالَ إنَّ فِي الْوُجُودِ وَاجِبًا، وَإِلَّا لَزِمَ انْحِصَارُ الْمَوْجُودِ فِي الْمُمْكِنِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ أَصْلًا فَإِنَّ الْمُمْكِنَ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّدًا لَا يَسْتَقِلُّ بِوُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا فِي إيجَادِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْإِيجَادِ بَعْدَ مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ فَإِذَنْ لَا وُجُودَ وَلَا إيجَادَ فَلَا مَوْجُودَ لَا بِذَاتِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَإِذَنْ ثَبَتَ وُجُودُ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ) أَيْ بَعْدِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الدَّوَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ. قَالَ: وَأَمَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَهُوَ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ، وَيَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ وَلَمَّا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ اصْطَلَحُوا عَلَى إطْلَاقِ الْحُدُوثِ عَلَى الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالذَّاتِ بِالْعَدَمِ بِمَعْنَى أَنَّ كَوْنَهُ مَسْبُوقًا بِوُجُودِ الْفَاعِلِ سَبَقًا ذَاتِيًّا يَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ عَدَمِهِ عَلَى وُجُودِهِ بِالذَّاتِ (قَوْلُهُ: ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ إلَخْ) يُحْتَمَلُ أَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَا جِهَةُ النِّسْبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا قَابَلَ النَّظَرَ أَيْ أَنَّ الْعِلْمَ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ ضَرُورِيٌّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ فِي الْجُمْلَةِ خَلَا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ جَهَلَةِ الْفَلَاسِفَةِ زَعَمَتْ أَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ بِغَيْرِ فَاعِلٍ وَهُوَ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ قَالَ الْفَخْرُ فِي الْمَعَالِمِ إنَّ الْعِلْمَ بِهَا أَعْنِي بِقَضِيَّةِ أَنَّ كُلَّ حَادِثٍ لَهُ مُحْدِثٌ مَرْكُوزٌ فِي فِطْرَةِ طَبْعِ الصِّبْيَانِ فَإِنَّك إذَا لَطَمْت وَجْهَ الصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاك وَقُلْت لَهُ حَصَلَتْ هَذِهِ اللَّطْمَةُ مِنْ غَيْرِ فَاعِلٍ لَا يُصَدِّقُك أَلْبَتَّةَ بَلْ فِي فِطْرَةٍ إلَيْهَا ثُمَّ فَإِنَّ الْحِمَارَ وَإِذَا أَحَسَّ بِصَوْتِ خَشَبَةٍ فَزِعَ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي فِطْرَتِهِ أَنَّ حُصُولَ صَوْتِ الْخَشَبَةِ بِدُونِ الْخَشَبَةِ مُحَالٌ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ) لَوْ قَالَ وَهُوَ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ لَكَانَ أَحْسَنَ إذْ الْإِلَهُ كُلِّيٌّ فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالْوَاحِدِ لَهُ فَائِدَةٌ (قَوْلُهُ: إذْ لَوْ جَازَ كَوْنُهُ إلَخْ) اسْتَدَلَّ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ دُونَ السَّمْعِيِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: ٢٢] جَرْيًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ إلَّا بِالْعَقْلِ وَقِيلَ يَصِحُّ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَعَلَى الْأَوَّلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute