أَلَا تَدُلُّ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ، وَمَا يُذْعِنُ أَحَدٌ مِنْ الْأَعْرَابِ أَوْ غَيْرِهِمْ لِلْإِيمَانِ فَيَأْتِي بِكَلِمَتِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَنْظُرَ فَيَهْتَدِيَ لِذَلِكَ، أَمَّا النَّظَرُ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ تَحْرِيرِ الْأَدِلَّةِ وَتَدْقِيقِهَا وَدَفْعِ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ هَهُنَا فَفَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ الْمُتَأَهِّلِينَ لَهُ يَكْفِي قِيَامُ بَعْضِهِمْ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْخَوْضِ فِيهِ الْوُقُوعُ فِي الشُّبَهِ وَالضَّلَالِ فَلَيْسَ لَهُ الْخَوْضُ فِيهِ وَهَذَا مَحْمَلُ نَهْيِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ وَعَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ تَصِحُّ عَقَائِدُ الْمُقَلِّدِ، وَإِنْ كَانَ آثِمًا بِتَرْكِ النَّظَرِ عَلَى الْأَوَّلِ.
(وَعَنْ الْأَشْعَرِيِّ) أَنَّهُ (لَا يَصِحُّ إيمَانُ الْمُقَلِّدِ) وَشَنَّعَ أَقْوَامٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَكْفِيرُ الْعَوَامّ وَهُمْ غَالِبُ الْمُؤْمِنِينَ، (وَقَالَ) الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ (الْقُشَيْرِيُّ) فِي دَفْعِ التَّشْنِيعِ هَذَا (مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالتَّحْقِيقُ) فِي الْمَسْأَلَةِ الدَّافِعُ لِلتَّشْنِيعِ أَنَّهُ (إنْ كَانَ) التَّقْلِيدُ (أَخْذَ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَعَ احْتِمَالِ شَكٍّ أَوْ وَهْمٍ) بِأَنْ لَا يَجْزِمَ بِهِ (فَلَا يَكْفِي) إيمَانُ الْمُقَلِّدِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا إيمَانَ مَعَ أَدْنَى تَرَدُّدٍ فِيهِ. (وَإِنْ كَانَ) التَّقْلِيدُ أَخْذَ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَكِنْ (جَزْمًا) هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ (فَيَكْفِي) إيمَانُ الْمُقَلِّدِ
ــ
[حاشية العطار]
يَبْلُغُوا سِنَّ التَّمْيِيزِ يُقْسِمُونَ بِاَللَّهِ وَبِالنَّبِيِّ وَيَسْتَعْطِفُونَ وَالِدَيْهِمَا بِالْقَسَمِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مِصْدَاقُ حَدِيثِ «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» .
(قَوْلُهُ: أَلَا تَدُلُّ) أَيْ السَّمَاءُ وَالْأَبْرَاجُ وَالْأَرْضُ وَالْفِجَاجُ وَإِلَّا لَقَالَ يَدُلَّانِ أَيْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ (قَوْلُهُ: لِلْإِيمَانِ) أَيْ لَأَظْهَرَاهُ، وَإِلَّا فَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِذْعَانُ فَيَنْحَلُّ الْمَعْنَى وَمَا يُذْعِنُ أَحَدٌ لِلْإِذْعَانِ (قَوْلُهُ: فِي حَقِّ الْمُتَأَهِّلِينَ) أَيْ فَإِذَا لَمْ يُقْسِمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَمْ تَأْثَمْ الْعَامَّةُ.
(قَوْلُهُ: وَعَنْ الْأَشْعَرِيِّ إلَخْ) هُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ نُسِبَ إلَى جَدِّهِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الصَّحَابِيِّ كَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ تَرْجَمَهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ الْمُصَنِّفُ وَذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ مَالِكِيٌّ نَاقِلًا لَهُ عَنْ سَيِّدِي عَلِيٍّ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَمَا يُقَالُ أَنَّهُ وَاضِعُ عِلْمِ الْكَلَامِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ آخِذٌ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَهُ تَأْلِيفٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ وَاضِعُ عِلْمِ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَكِنْ قِيلَ إنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَكَلَّمَ فِيهِ، وَأَلَّفَ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِيهِ رِسَالَةً وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَقِيلَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْبَصْرَةِ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. (قَوْلُهُ: وَتَكْفِيرُ الْعَوَامّ إلَخْ) رُدَّ بِأَنَّهُمْ عَارِفُونَ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ وَهُوَ كَافٍ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِدَلِيلٍ إجْمَالِيٍّ يَرْفَعُ النَّاظِرَ عَنْ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ فَرْضُ عَيْنٍ لَا مَخْرَجَ عَنْهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ وَبِدَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنْ إزَاحَةِ الشَّبَهِ وَإِلْزَامِ الْمُنْكِرِينَ وَإِرْشَادِ الْمُسْتَرْشِدِينَ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَا بُدَّ مِنْ أَنَّهُ يَقُومُ بِهِ الْبَعْضُ.
(قَوْلُهُ: مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ) فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ النَّقْلَ عَنْهُ مَشْهُورٌ، وَقَدْ قَالَ فِي الْمَقَاصِدِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ ابْتِنَاءِ الِاعْتِقَادِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْأُصُولِ عَلَى دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ الِاقْتِدَارُ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ وَعَلَى مُحَاوَلَةِ الْخُصُومِ وَدَفْعِ الشَّبَهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ حَتَّى حُكِيَ عَنْهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، لَكِنْ ذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مُؤْمِنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ لِوُجُودِ التَّصْدِيقِ لَكِنَّهُ عَاصٍ بِتَرْكِهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ اهـ.
وَفِي مُخْتَصَرِ الْفُتُوحَاتِ إنَّ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ لِضَعِيفِ النَّظَرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ الدِّينِ إنْ نَظَرَ فِيهِ لِقُصُورِهِ قَالَ وَقَدْ رَأَيْنَا جَمَاعَةً خَرَجُوا عَنْ الدِّينِ بِالنَّظَرِ لَمَّا كَانَتْ فِطْرَتُهُمْ مَعْلُومَةً، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: ١٠٤] فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ إنْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ النَّجَاةَ فَلْيَأْخُذْ عَقَائِدَهُ تَقْلِيدًا كَمَا أَخَذَ أَحْكَامَ دِينِهِ تَقْلِيدًا اهـ. (قَوْلُهُ: أَوْ وَهْمٍ) أَيْ فَيَكُونُ الْحَاصِلُ عِنْدَهُ ظَنًّا؛ لِأَنَّ الْوَهْمَ هُوَ الطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّارِحُ بِأَنْ لَا يَجْزِمَ إلَخْ أَشَارَ بِهِ إلَى دُخُولِ الظَّنِّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ لَا إيمَانَ مَعَ تَرَدُّدٍ) فِيهِ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ السَّنُوسِيُّ فِي شَرْحِ كُبْرَاهُ مِمَّا وَقَعَ سُؤَالٌ لِسَيِّدِي أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى وَغَيْرِهِ عَنْهُ مِنْ فُقَهَاءِ بِجَايَةَ فِيمَنْ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ إيمَانًا مِنْ إسْلَامٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute