للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ رَجُلٌ مُبَذِّرٌ) أَيْ يَنْقُلُ شَيْئًا مِنْ مَكَانِهِ إلَى غَيْرِهِ (مُبْتِرٌ) أَيْ يَأْتِي بِالْأَلْفَاظِ بَتْرَاءَ أَيْ نَوَاقِصَ كَأَنْ يَحْذِفَ مِنْهَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْأَقْوَالِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ رَوْمُ النُّقْصَانِ لَكِنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَفِي بِمَقْصُودِنَا (فَدُونَكَ) أَيُّهَا الطَّالِبُ لِمَا تَضَمَّنَهُ مُخْتَصَرُنَا (مُخْتَصَرًا) لَنَا (بِأَنْوَاعِ الْمَحَامِدِ حَقِيقًا وَأَصْنَافِ الْمَحَاسِنِ خَلِيقًا) لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا يَقْتَضِي أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ (جَعَلَنَا اللَّهُ بِهِ) لِمَا أَمَلْنَاهُ مِنْ كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: ٦٩]

ــ

[حاشية العطار]

مَعَ بَقَاءِ الْمَعْنَى بِتَمَامِهِ فَيَرْجِعُ إلَى الِاخْتِصَارِ وَإِلَّا فَغَيْرُ مُتَعَسِّرٍ اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ) رَاجِعٌ إلَى تَعَسُّرِ رَوْمِ النُّقْصَانِ كَمَا يَدُلُّ لَهُ كَلَامُ الشَّارِحِ وَهُوَ كَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْقَصْدِ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ أَمْرٌ بَعِيدٌ نَادِرٌ كَأَنَّهُ يَدْعُو اللَّهَ وَيُنَادِيهِ اسْتِظْهَارًا بِهِ وَاسْتِعَانَةً عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: بِأَنْوَاعِ الْمَحَامِدِ حَقِيقًا) أَيْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدَ بِهَا وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِيهِ وَمَا بَعْدَهُ لِرِعَايَةِ السَّجْعِ فَقَوْلُهُ وَأَصْنَافِ الْمَحَاسِنِ خَلِيقًا بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ إذْ خَلِيقُ بِمَعْنَى حَقِيقٍ (قَوْلُهُ: أَيْ لِمَا أَمَلْنَاهُ مِنْ كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ) لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» وَأَعْلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْعِلْمُ وَلِذَلِكَ قَالُوا إنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ مِنْ عَالِمٍ أَوْ مُتَعَلِّمٍ إذَا دَخَلَ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ قِرَاءَةَ الْعِلْمِ لِأَنَّ قِرَاءَتَهُ مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لِابْنِ وَهْبٍ لَمَّا جَمَعَ كُتُبَهُ وَقَامَ يَتَنَقَّلُ مَا الَّذِي قُمْتُ إلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا كُنْتَ فِيهِ إذَا أَحْسَنْتَ النِّيَّةَ، نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ وَقَالَ رَجُلٌ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ هَذَا الْعِلْمُ فَمَتَى الْعَمَلُ فَقَالَ أَحْمَدُ أَلَسْنَا فِي عَمَلٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ النَّافِلَةِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ الْعَالِمُ إذَا لَمْ يُخِلَّ بِوَاجِبٍ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي فَرْضٍ أَفْضَلُ مِنْ الْعَابِدِ وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ جَعَلَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِ الْمُوَثِّقِينَ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِلْفَوْزِ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْعَمَلِ إجْلَالُ اللَّهِ وَتَعْظِيمُهُ وَثُبُوتُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مَعَ ذَلِكَ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْلِيلِ بِهِمَا حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأَغْرَاضِ وَالْأَغْرَاضِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَمَلِ فَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَحْمُودَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إظْهَارِ الِافْتِقَارِ إلَى إحْسَانِ الْمَوْلَى جَلَّ وَعَلَا.

وَقَدْ اعْتَرَضَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى الصُّوفِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ لَا نَعْبُدُهُ خَوْفًا مِنْ نَارِهِ وَلَا طَمَعًا فِي جَنَّتِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَظَّمَ شَأْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَرَغَّبَ عِبَادَهُ فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَخَوَّفَهُمْ مِنْ النَّارِ وَعَذَابِهَا وَإِنْ أُجِيبَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُمْ احْتِقَارَ شَأْنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَعَدَمِ الِاهْتِبَالِ بِهِمَا فَإِنَّ تَعْظِيمَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ وَاجِبٌ وَاحْتِقَارُهُ رُبَّمَا كَانَ كُفْرًا وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَجْعَلُونَ أَعْمَالَهُمْ مُعَلَّلَةً بِهِمَا بِحَيْثُ إنَّهُمَا لَوْ لَمْ يُوجَدَا مَا عَمِلُوا فَإِنَّ مَوْلَانَا تَعَالَى يَسْتَحِقُّ عَلَى الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَحَرَّزُونَ عَنْهُ وَمِنْ هَاهُنَا نَعْلَمُ أَنَّ حَقَّ الْعَامِلِينَ لَا يَقْصِدُوا بِأَعْمَالِهِمْ التَّوَصُّلَ إلَى عَطَائِهِ بَلْ مِنْ حَقِّ هَذَا السَّيِّدِ الْمُحْسِنِ فِي حَالَتَيْ الْإِقْبَالِ وَالْإِعْرَاضِ أَنْ لَا يَسْلُكَ مَعَهُ سَبِيلَ الْمُعَامَلَاتِ وَالْإِعْرَاضِ وَأَنْ يَعْبُدَ وَيُخْضَعَ لَهُ لِجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ اللَّذَيْنِ أَنْبَأَ عَنْهُمَا عُمُومُ إحْسَانِهِ فَمَنْ عَبَدَهُ حِينَئِذٍ لِيَتَوَصَّلَ بِعِبَادَتِهِ إلَى عَطَائِهِ فَقَدْ جَهِلَ حَقَّ رُبُوبِيَّتِهِ وَلَمْ يُخْلِصْ فِي عُبُودِيَّتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْمَلُ لِنَيْلِ حَظِّهِ فَكَأَنَّهُ يَدْفَعُ شَيْئًا لِيَأْخُذَ فِي مُقَابَلَتِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَيْسَ عَبْدًا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَأَنَّهُ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ مَعْبُودَهُ إنَّمَا يُعْطِيهِ بِعَمَلِهِ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْكَرَمِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ تَعَالَى وَلِهَذَا أَوْرَدَ النَّهْيَ عَنْ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ نَحْوَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ قَدِمَ غَائِبِي لَأَصُومَنَّ أَوْ لَأَتَصَدَّقَنَّ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ اشْفِ مَرِيضِي أَعْبُدْكَ بِكَذَا كَأَنَّهُ إنَّمَا يَشْفِيهِ لَهُ إذَا الْتَزَمَ عِبَادَتَهُ وَهَذَا غَيْرُ لَائِقٍ بِكَرَمِهِ تَعَالَى فَهُوَ جَهْلٌ قَبِيحٌ مِنْ الْعَبْدِ وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إيَّاكُمْ وَالنَّذْرَ فَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» وَقَدْ نَبَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنَالُ شَيْئًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا بِفَضْلِهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ بِقَوْلِهِ «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» فَحَقُّ الْعَبْدِ إذًا أَنْ لَا يَجْعَلَ عَمَلَهُ هُوَ الْمُوَصِّلُ عَلَى سَبِيلِ الرَّبْطِ الْمُطَّرِدِ وَالدَّوَرَانِ الدَّائِمِ بَلْ يَعْمَلُ عُبُودِيَّةً وَخُضُوعًا وَيَعْتَمِدُ عَلَى فَضْلِ مَوْلَاهُ وَكَرَمِهِ وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ

<<  <  ج: ص:  >  >>