(بِاطِّرَاحِ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي صُورَةِ الْأَسْبَابِ أَوْ بِالْكَسَلِ وَالتَّمَاهُنِ فِي صُورَةِ التَّوَكُّلِ) كَأَنْ يَقُولَ لِسَالِكِ التَّجْرِيدِ الَّذِي سُلُوكُهُ لَهُ أَصْلَحُ مِنْ تَرْكِهِ لَهُ إلَى مَتَى تَتْرُكُ الْأَسْبَابَ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ تَرْكَهَا يُطْمِعُ الْقُلُوبَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَاسْلُكْهَا لِتَسْلَمَ مِنْ ذَلِكَ وَيَنْتَظِرُ غَيْرُكَ مِنْكَ مَا كُنْتَ تَنْتَظِرُهُ مِنْ غَيْرِكَ وَيَقُولُ لِسَالِكِ الْأَسْبَابِ الَّذِي سُلُوكُهُ لَهَا أَصْلَحُ مِنْ تَرْكِهِ لَهَا لَوْ تَرَكْتَهَا وَسَلَكْتَ التَّجْرِيدَ فَتَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ لَصَفَا قَلْبُكَ وَأَشْرَفَ ذَلِكَ النُّورُ وَأَتَاكَ مَا يَكْفِيكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَاتْرُكْهَا لِيَحْصُلَ لَكَ ذَلِكَ فَيَجُرُّ بِهِ تَرْكُهَا الَّذِي هُوَ غَيْرُ أَصْلَحَ لَهُ إلَى الطَّلَبِ مِنْ الْخَلْقِ وَالِاهْتِمَامِ بِالرِّزْقِ (وَالْمُوَفَّقُ يَبْحَثُ عَنْ هَذَيْنِ) الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَأْتِي بِهِمَا الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ غَيْرِهِمَا كَيْدًا مِنْهُ لَعَلَّهُ يَسْلَمُ مِنْهُمَا.
(وَيَعْلَمُ) مَعَ بَحْثِهِ عَنْهُمَا (أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَا يُرِيدُ) اللَّهُ كَوْنَهُ أَيْ وُجُودَهُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا (وَلَا يَنْفَعُنَا عِلْمُنَا بِذَلِكَ) الْمَعْلُومِ الَّذِي ضَمَّنَّاهُ هَذَا الْكِتَابَ جَمْعَ الْجَوَامِعِ (إلَّا أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) نَفْعَنَا بِهِ بِأَنْ يُوَفِّقَنَا لَأَنْ نَأْتِيَ بِهِ خَالِصًا مِنْ الْعُجْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْآفَاتِ (وَقَدْ تَمَّ جَمْعُ الْجَوَامِعِ عِلْمًا) تَمْيِيزٌ مِنْ نِسْبَةِ الْإِتْمَامِ أَيْ تَمَّ هَذَا الْكِتَابُ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ أَيْ الْمَسَائِلُ الْمَقْصُودُ جَمْعُهَا فِيهِ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمًا مَعْمُولَ الْجَوَامِعِ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا
ــ
[حاشية العطار]
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» وَقَالَ تَعَالَى {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: ٧١] وَقَالَ {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: ١٠٢] وَقَالَ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: ٦٠] وَقَالَ لِلسَّيِّدِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا} [الدخان: ٢٣] وَقَدْ «اخْتَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْغَارِ وَاسْتَأْجَرَ الْخَبِيرَ وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَاتَّخَذَ خَنْدَقًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ يَحْتَرِسُ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ وَأَقَامَ الرُّمَاةَ يَوْمَ أُحُدٍ لِلتَّحَفُّظِ مِنْ نِكَايَةِ الْعَدُوِّ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتُرِيُّ «التَّوَكُّلُ حَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكَسْبُ سُنَّتُهُ» فَمَنْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ وُصُولَ الْعَبْدِ إلَى أَشْيَاءَ بِغَيْرِ طَلَبٍ فَهُوَ وَاصِلٌ إلَيْهَا بِدُونِ طَلَبٍ وَقَدَّرَ وُصُولَهُ إلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى بَعْدَ الطَّلَبِ فَلَا يَصِلُ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَهُ، فَالطَّلَبُ مِنْ الْقَدَرِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ وَبَيْنَ الطَّلَبِ فِي أَنَّهُمَا مَقْدُورَانِ فَلَا يَتَنَافَيَانِ.
وَكَذَا التَّوَكُّلُ مَعَ السَّبَبِ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ التَّوَكُّلَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ وَالْكَسْبُ مَحَلُّهُ الْجَوَارِحِ وَلَا تَضَادَّ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَحَلِّ وَكَانَ بَعْضُ الْمُلُوكِ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ سَبَبِيَّةِ الطَّلَبِ وَيَرَى مَحْضَ الْقَدَرِ فَتَرَكَ الطَّلَبَ وَالتَّدْبِيرَ فَأَخْرَجَهُ إخْوَتُهُ مِنْ سُلْطَانِهِ وَقَهَرُوهُ عَلَى مَمْلَكَتِهِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إنَّ تَرْكَ الطَّلَبِ نِصْفُ الْهِمَّةِ وَبَذْلُ النَّفْسِ وَصَاحِبُهُ صَابِرًا إلَى أَخْلَاقِ ذَوَاتِ الْأَحْجِرَةِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ تَنْشَأُ فِي أَحْجِرَتِهَا وَفِيهَا يَكُونُ مَوْتُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَدَرِ وَالطَّلَبِ، وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا عَجِيبًا وَهُوَ أَنَّ أَعْمَى وَمُقْعَدًا كَانَا فِي قَرْيَةٍ وَهُمَا فِي غَايَةِ الضَّرَرِ وَالْفَقْرِ لَا قَائِدَ لِلْأَعْمَى وَلَا حَامِلَ لِلْمُقْعَدِ وَكَانَ فِي الْقَرْيَةِ رَجُلٌ يُطْعِمُهُمَا احْتِسَابًا فَلَنْ يَزَالَا فِي عَافِيَةٍ إلَى أَنْ هَلَكَ الرَّجُلُ فَاشْتَدَّ جُوعُهُمَا وَبَلَغَ الضُّرُّ فِيهِمَا جَهْدَهُ فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمَا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ الْأَعْمَى الْمُقْعَدَ فَيَدُلَّهُ الْمُقْعَدُ عَلَى الطَّرِيقِ بِبَصَرِهِ وَيَسْتَقِلُّ الْأَعْمَى بِحَمْلِ الْمُقْعَدِ فَيَدُورَانِ فِي الْقَرْيَةِ يَسْتَطْعِمَانِ أَهْلَهَا فَفَعَلَا فَنَجَحَ أَمْرُهُمَا وَلَوْ لَمْ يَفْعَلَا هَلَكَا، وَكَذَلِكَ الْقَدَرُ سَبَبُ الطَّلَبِ وَالطَّلَبُ سَبَبُهُ الْقَدَرُ فَأَخَذَ الرَّجُلُ فِي الطَّلَبِ فَظَفِرَ بِأَعْدَائِهِ وَرَجَعَ إلَى مُلْكِهِ فَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُتْرَكُ السَّبَبُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَدَرِ وَلَا يَجْتَهِدُ فِيهِ غَافِلًا عَنْ الْقَدَرِ اهـ
١ -
(قَوْلُهُ: بِاطِّرَاحِ) مُبَالَغَةٌ فِي الطَّرْحِ بِمَعْنَى التَّرْكِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ (قَوْلُهُ: وَالتَّمَاهُنِ) أَيْ الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ لِلنَّاسِ (قَوْلُهُ: فِي صُورَةِ الْأَسْبَابِ) أَيْ تَحْسِينِهَا فَلَا يَأْمُرُهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ بِطَرْحِ جَانِبِ اللَّهِ وَإِنَّمَا يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ تَحْسِينِ الْأَسْبَابِ فَيَتَّبِعُ الشَّيْطَانَ وَيَتْرُكُ جَانِبَ اللَّهِ وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِيمَا بَعْدَهُ (قَوْلُهُ: فَيَجُرُّ بِهِ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ (قَوْلُهُ: بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ الَّذِي ضَمَّنَّاهُ إلَخْ) الْأَوْلَى أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَا يُرِيدُهُ (قَوْلُهُ: تَمْيِيزٌ مِنْ نِسْبَةِ التَّمَامِ) وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا مُحَوَّلًا عَنْ الْفَاعِلِ وَالْأَصْلُ تَمَّ عِلْمُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ (قَوْلُهُ: أَيْ الْمَسَائِلُ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute