(قِيلَ) قَوْلًا مَقْبُولًا (إرَادَةُ التَّجْرِيدِ) عَمَّا يَشْغَلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى (مَعَ دَاعِيَةِ الْأَسْبَابِ) مِنْ اللَّهِ فِي مُرِيدِ ذَلِكَ (شَهْوَةٌ خَفِيَّةٌ) مِنْ الْمُرِيدِ.
(وَسُلُوكُ الْأَسْبَابِ) الشَّاغِلَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى (مَعَ دَاعِيَةِ التَّجْرِيدِ) مِنْ اللَّهِ فِي سَالِكِ ذَلِكَ (انْحِطَاطٌ) لَهُ (عَنْ الذِّرْوَةِ الْعَلِيَّةِ) فَالْأَصْلَحُ لِمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ فِيهِ دَاعِيَةَ الْأَسْبَابِ سُلُوكُهُ دُونَ التَّجْرِيدِ وَلِمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ فِيهِ دَاعِيَةَ التَّجْرِيدِ سُلُوكُهُ دُونَ الْأَسْبَابِ (وَقَدْ يَأْتِي الشَّيْطَانُ) لِلْإِنْسَانِ
ــ
[حاشية العطار]
لَا يُقَالُ تَكْلِيفُهُمْ السَّعْيَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ يَمْنَعُهُمْ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ لِأَنَّا نَقُولُ تَحْصِيلُ الْقَدْرِ الضَّرُورِيِّ غَيْرُ مَانِعٍ وَاَلَّذِي يَمْنَعُ طَلَبَ الزِّيَادَةِ وَقَدْ وَقَعْنَا فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَتَلَبَّسْنَا بِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: ٤] وَقَدْ كَانَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ سَابِقًا أَرْزَاقٌ دَائِرَةٌ مِنْ أَوْقَاتِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَصَدَقَاتٍ جَارِيَةٍ مِنْ مَيَاسِيرِ الْمُسْلِمِينَ تَقُومُ بِكِفَايَتِهِمْ وَتَدْفَعُ ضَرُورَةَ حَاجَتِهِمْ فَلَمْ تَطْمَحْ نُفُوسُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى فُضُولِ الْعَيْشِ وَارْتِكَابِ التَّهَوُّرِ فِي تَحْصِيلِهَا وَالطَّيْشِ فَصَرَفُوا أَوْقَاتَهُمْ كُلَّهَا فِي تَحْصِيلِ الْعُلُومِ وَسَاعَدَهُمْ صَفَاءُ الْوَقْتِ مِنْ الشَّوَائِبِ الشَّاغِلَةِ لِلْعُقُولِ وَالْخُطُوبِ الْمُزْعِجَةِ لِلْقُلُوبِ فَوَصَلُوا فِي مَدَارِكِ الْعُلُومِ إلَى حَدٍّ هُوَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ آيَةُ إعْجَازٍ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ إلَى حَقِيقَةِ الْإِحَاطَةِ بِهِ الْمَجَازُ:
ثُمَّ انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ وَأَهْلُهَا ... فَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّهُمْ أَحْلَامُ
وَاتَّفَقَ مَجِيئُنَا وَالزَّمَانُ قَدْ شَابَ بَعْدَ شَبَابِهِ وَقَطَبَ بَعْدَ ابْتِسَامِهِ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ فَارْتَشَفْنَا بَعْضَ قَطَرَاتٍ مِنْ بِحَارِ عُلُومِهِمْ وَلَمْ نُدْرِكْ فِي سَيْرِنَا شَأْوَ فُهُومِهِمْ فَحَالُنَا يُنْبِي عَنْ قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي:
أَتَى الزَّمَانُ بَنُوهُ فِي شَبِيبَتِهِ ... فَسَرَّهُمْ وَأَتَيْنَاهُ عَلَى الْهَرَمِ
هَذَا مَعَ تَكَاثُرِ الْمَآرِبِ وَتَعَاطِي الْمَطَالِبِ وَصَرْفِ الْأَوْقَاتِ فِي ضَرُورِيَّاتِ الْحَاجَاتِ وَتَكَرُّرِ الْأَوْقَاتِ وَكَثْرَةِ الْآفَاتِ وَتَوَارُدِ الْفِتَنِ وَتَوَالِي الْمِحَنِ:
وَهَكَذَا يَذْهَبُ الزَّمَانُ وَيَفْنَى ... نى الْعِلْمُ فِيهِ وَيَنْمَحِي الْأَثَرُ
وَلَا يَسَعُنِي إلَّا التَّسْلِيمُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ حَذَرًا مِنْ السَّخَطِ أَيْ عَدَمِ الرِّضَى بِمَا قُسِمَ لَهُ وَالتَّضَجُّرِ وَبَثِّ الشَّكْوَى.
وَقَوْلُهُ وَالِاسْتِشْرَافُ أَيْ التَّطَلُّعُ لِمَا فِي أَيْدِي الْخَلْقِ وَأَبِيُّ النَّفْسِ لَا يَرْضَى بِتَحَمُّلِ الْمِنَّةِ وَلِلَّهِ دُرُّ الْقَائِلِ:
إذَا أَظْمَأَتْكَ أَكَفُّ اللِّئَامِ ... كَفَتْكَ الْقَنَاعَةُ شِبْعًا وَرِيًّا
فَكُنْ رَجُلًا رِجْلُهُ فِي الثَّرَى ... وَهَامَةُ هِمَّتِهِ الثُّرَيَّا
فَإِنَّ إرَاقَةَ مَاءِ الْحَيَا ... ةِ دُونَ إرَاقَةِ مَاءِ الْمُحَيَّا
(وَقَوْلُهُ قَوْلًا مَقْبُولًا) قَيَّدَهُ بِهَذَا دَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِحِكَايَتِهِ بِقِيلِ وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الْعَارِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عَطَاءِ اللَّهِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ أَخَذَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ وَقَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَتَكَلَّمَ بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ وَغَيْرِهِ فَوْقَ الْكُرْسِيِّ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَوْمِ مَعَ إلْمَامٍ بِآثَارِ السَّلَفِ فَأَحَبَّهُ النَّاسُ وَكَثُرَتْ أَتْبَاعُهُ وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ قِيَامًا عَلَى تَقِيِّ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّةَ لَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ مِصْرَ وَأُحْضِرَ مِنْ الشَّامِ عَلَى غَيْرِ صُورَةٍ بِسَبَبِ مَسَائِلَ صَدَرَتْ عَنْهُ أَنْكَرُوهَا عَلَيْهِ وَتَوَلَّى مُنَاظَرَتَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَحُبِسَ بِقَلْعَةِ مِصْرَ وَبِسِجْنِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة أَيْضًا وَوَقَعَتْ لَهُ مِحَنٌ كَثِيرَةٌ وَصَارَ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ فِي حَقِّهِ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ مَعَهُ وَفِرْقَةٌ عَلَيْهِ وَالْقِصَّةُ طَوِيلَةٌ تُوُفِّيَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ بِالْمَدْرَسَةِ الْمَنْصُورِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْآنُ بِالْمَارِسْتَانْ وَلَمْ يَمُتْ الشَّيْخُ بِقَاعَةِ الْمَرْضَى الْمُهَيَّئَةِ الْآن لَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ يَسْكُنُ بِبَعْضِ مَحِلَّاتِ الْمَسْجِدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُلَمَاءِ سَابِقًا. فَإِنَّ غَالِبَ سُكْنَاهُمْ كَانَتْ بِالْمَدَارِسِ وَلَهُمْ فِيهَا بُيُوتٌ وَحُجُرَاتٌ لِطَلَبَتِهِمْ مَوْجُودٌ بَعْضُهَا الْآنَ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ قَالَ الْمَقْرِيزِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْمُسَمَّى