للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَرْجَحُ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّبْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ لِلنَّفْسِ وَمَنْ يَكُونُ فِي تَوَكُّلِهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ فَالِاكْتِسَابُ فِي حَقِّهِ أَرْجَحُ حَذَرًا مِنْ التَّسَخُّطِ وَالِاسْتِشْرَافِ (وَمِنْ ثَمَّ) أَيْ مِنْ هُنَا وَهُوَ الثَّالِثُ الْمُخْتَارُ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ

ــ

[حاشية العطار]

رَأَيْتَ الْفَقِيرَ بِلَا إبْرَةٍ وَلَا خُيُوطٍ وَلَا رَكْوَةٍ فَاتَّهِمْهُ فِي صَلَاتِهِ (قَوْلُهُ: فَالِاكْتِسَابُ فِي حَقِّهِ أَرْجَحُ) وَقَدْ يَكُونُ التَّكَسُّبُ لَا يُضْعِفُ التَّوَكُّلَ بَلْ لِأَغْرَاضٍ أُخَرَ إمَّا لِقَصْدِ مُعَاوَنَةِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ بِجَلْبِ الْأَقْوَاتِ وَأَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَإِقَامَةِ الصِّنَاعَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ضَرُورِيٌّ لِبَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي لَوْ تَرَكَهُ الْجَمِيعُ لَأَثِمُوا فَإِنَّهُ مِنْ مَفْرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَلِذَلِكَ قِيلَ الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ وَبِتَرْكِ ذَلِكَ يَخْتَلُّ نِظَامُ الْعَالَمِ فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَسْبَابٌ عَادِيَةٌ ارْتَبَطَ بِهَا حِكَمٌ وَمَصَالِحُ يَتَلَبَّسُ بِهَا الْعَارِفُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْجُبَهُمْ عَنْ الْمُسَبِّبِ فَيُحْمَدُوا وَيَقِفُ عِنْدَهَا الْمَحْجُوبُونَ فَيُذَمُّوا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّارَ دَارُ أَسْبَابٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعَاطِيهَا وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: ٣٢] فَلَمْ يَقْسِمْ الرَّبُّ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّسَاوِي بَلْ عَلَى طَرِيقِ التَّفَاوُتِ إذْ لَوْ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَكَانَ مَا عِنْدَ هَذَا عِنْدَ غَيْرِهِ لَمْ يَنْتَفِعْ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَمْ يَرْغَبْ بَعْضُهُمْ فِي خِدْمَةِ بَعْضٍ فَوَقَعَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمْ لِيَتَعَاوَنُوا وَيَتَرَفَّقُوا وَيُسَخِّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَسْتَعْمِلَ الْأَغْنِيَاءُ الْفُقَرَاءَ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ بِالْأُجْرَةِ وَالْفُقَرَاءُ الْأَغْنِيَاءَ فِي مَتَاعِبِ الْأَسْفَارِ وَجَلْبِ السِّلَعِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفُقَرَاءُ مِنْ الْأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ قَالَ الرَّاغِبُ فِي كِتَابِ الذَّرِيعَةِ: التَّكَسُّبُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ مَعْدُودًا مِنْ الْمُبَاحَاتِ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ لِلْإِنْسَانِ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ إلَّا بِإِزَالَةِ ضَرُورِيَّاتِ حَيَاتِهِ فَإِزَالَتُهَا وَاجِبَةٌ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى إزَالَةِ ضَرُورِيَّاتِهِ إلَّا بِأَخْذِ تَعَبٍ مِنْ النَّاسِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ فِعْلًا لَهُ وَإِلَّا كَانَ ظَالِمًا لَهُمْ فَمَنْ تَوَسَّعَ فِي تَنَاوُلِ عَمَلِ غَيْرِهِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَلْبَسِهِ وَمَسْكَنِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ لَهُمْ عَمَلًا بِقَدْرِ مَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْهُمْ وَلِهَذَا ذُمَّ مَنْ يَدَّعِي التَّصَوُّفَ فَيَتَعَطَّلُ عَنْ الْمَكَاسِبِ وَلَا يَكُونُ لَهُ عِلْمٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ فِي الدِّينِ يُقْتَدَى بِهِ بَلْ يَجْعَلُ هَمَّهُ عَادِيَةَ بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مَنَافِعَ النَّاسِ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ مَعَاشَهُمْ وَلَا يَرُدُّ إلَيْهِ نَفْعًا فَلَا طَائِلَ فِي أَمْثَالِهِمْ إلَّا أَنْ يُكَدِّرُوا الْمَاءَ وَيُغْلُوا الْأَسْعَارَ اهـ.

وَأَمَّا لِلتَّرَفُّعِ عَنْ الْأَخْذِ مِنْ أَمْوَالِ السَّلَاطِينِ وَقَصْدِ مُوَاسَاةِ الْمُحْتَاجِينَ.

وَهَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ لِجَمْعِهِ بَيْنَ فَضَائِلَ عَدِيدَةٍ وَعَلَى ذَلِكَ يَتَخَرَّجُ اشْتِغَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ بِالتِّجَارَةِ كَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِمْ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ أَنَّ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنْتَ تَأْمُرُنَا بِالزُّهْدِ وَالتَّقَلُّلِ وَالْبُلْغَةِ وَنَرَاكَ تَأْتِي بِالْبَضَائِعِ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ إلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ كَيْفَ ذَا وَأَنْتَ تَأْمُرُنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَلِيٍّ أَنَا أَفْعَلُ ذَا لِأَصُونَ بِهِ وَجْهِي وَأُكْرِمُ بِهِ عِرْضِي وَأَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّي لَا أَرَى لِلَّهِ حَقًّا إلَّا سَارَعْتُ إلَيْهِ حَتَّى أَقُومَ بِهِ، فَقَالَ الْفُضَيْلُ: يَا ابْنُ الْمُبَارَكِ مَا أَحْسَنُ ذَا إنْ تَمَّ. اهـ.

ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ جَارٍ فِي عُمُومِ النَّاسِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِهِ بِمَا عَدَا أَهْلَ الْعِلْمِ قَائِلًا بِأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لَهُمْ بِالرِّزْقِ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ تَكَفَّلَ بِذَلِكَ لِعُمُومِ مَخْلُوقَاتِهِ قَالَ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: ٦] وَقَالَ تَعَالَى {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: ٢٢] وَأَمَرَهُمْ بِالسَّعْيِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ وَهَذِهِ السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ قَدْ أَكْرَمَهَا اللَّهُ بِأَنْ أَوْجَدَ لَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَبِالْعَكْسِ أَمَرَهَا بِقَوْلِهِ {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: ٢٥] قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ ... وَهُزِّي إلَيْكِ الْجِذْعَ يَسَّاقَطُ الرُّطَبُ

وَلَوْ شَاءَ أَحْنَى الْجِذْعَ مِنْ غَيْرِ هَزِّهِ ... عَلَيْهَا وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبُ

وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:

وَلَيْسَ الرِّزْقُ عَنْ طَلَبٍ حَثِيثٍ ... وَلَكِنْ أَلْقِ دَلْوَكَ فِي الدِّلَاءِ

تَجِيءُ بِمِلْئِهَا طَوْرًا وَطَوْرًا ... تَجِيءُ بِحَمْأَةٍ وَقَلِيلِ مَاءٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>