(قَدَّرَ لَهُ قُدْرَةً هِيَ اسْتِطَاعَتُهُ تَصْلُحُ لِلْكَسْبِ لَا لِلْإِبْدَاعِ) بِخِلَافِ قُدْرَةِ اللَّهِ فَإِنَّهَا لِلْإِبْدَاعِ لَا لِلْكَسْبِ (فَاَللَّهُ خَالِقٌ غَيْرُ مُكْتَسِبٍ وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ غَيْرُ خَالِقٍ) فَيُثَابُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مُكْتَسَبِهِ الَّذِي يَخْلُقُهُ اللَّهُ عَقِبَ قَصْدِهِ لَهُ. وَهَذَا - أَيْ كَوْنُ فِعْلِ الْعَبْدِ مُكْتَسَبًا لَهُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ - تَوَسُّطٌ بَيْنَ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْعَبْدَ خَالِقٌ لِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ يُثَابُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ قَوْلِ الْجَبْرِيَّةِ أَنَّهُ لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا وَهُوَ آلَةٌ مَحْضَةٌ كَالسِّكِّينِ فِي يَدِ الْقَاطِعِ (وَمِنْ ثَمَّ) أَيْ مِنْ هُنَا وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ مُكْتَسِبٌ لَا خَالِقٌ لِكَوْنِ قُدْرَتِهِ لِلْكَسْبِ لَا لِلْإِبْدَاعِ فَلَا تُوجَدُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَقُولُ (الصَّحِيحُ أَنَّ الْقُدْرَةَ) مِنْ الْعَبْدِ (لَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ) أَيْ لِلتَّعَلُّقِ بِهِمَا وَإِنَّمَا تَصْلُحُ لِلتَّعَلُّقِ بِأَحَدِهِمَا الَّذِي يُقْصَدُ وَقِيلَ تَصْلُحُ لِمُتَعَلِّقٍ بِهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ أَيْ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا بَدَلًا عَنْ تَعَلُّقِهَا بِالْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ إمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ خَالِقٌ لِفِعْلِهِ فَقُدْرَتُهُ كَقُدْرَةِ اللَّهِ
ــ
[حاشية العطار]
غَرِيبِ الْوَطَنِ فِي تَحْقِيقِ نُصْرَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ ثُمَّ تَوَجَّهْت إلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ إذْ ذَاكَ وَهُوَ الْعَلَّامَةُ عَرَبْ زَادَهْ فَكَتَبَ عَلَيْهَا تَقْرِيظًا ثُمَّ صَحِبْتُهَا مَعِي عِنْدَ تَوَجُّهِي لِدِمَشْقَ الشَّامِ وَاجْتَمَعْتُ فِيهَا بِالْعَلَّامَةِ الْعَارِفِ بِاَللَّهِ الشَّيْخِ عُمَرَ الْيَافِيِّ شَيْخِ طَرِيقَةِ الْخَلْوَتِيَّةِ وَكَانَ ذَا بَاعٍ فِي فَهْمِ كَلَامِ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ سَيِّدِي مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَلَهُ بَرَاعَةٌ تَامَّةٌ فِي الْإِنْشَاءِ وَالشِّعْرِ فَقَرَّظَهَا أَيْضًا وَهِيَ بَاقِيَةٌ عِنْدِي الْآنَ.
(قَوْلُهُ: قُدْرَةٌ هِيَ اسْتِطَاعَتُهُ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا تُسَمَّى اسْتِطَاعَةً أَيْضًا فَالِاسْتِطَاعَةُ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ عَرْضٌ مُقَارِنٌ لِلْفِعْلِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ فَلَا يَصِحُّ سَبْقُهَا عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدَ مِنْ أَنَّ الْعَرْضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَمَنْ قَالَ بِبَقَائِهِ جَوَّزَ سَبْقَهَا عَلَى الْفِعْلِ وَلَا يُنَاسِبُ هَذَا جَعْلَهَا عِلَّةً لِأَنَّ الْعِلَّةَ تُقَارِنُ الْمَعْلُولَ فَتَكُونُ شَرْطًا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ الْمُقَارَنَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَقُدْرَةُ الْعَبْدِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ثُمَّ مَنْ قَالَ بِسَبْقِهَا عَلَى الْفِعْلِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا أُورِدَ عَلَى الْقَائِلِ بِالْمُقَارَنَةِ مِنْ لُزُومِ تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إلَى الْمُكَلَّفِ قَبْلَ الْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ حِينَئِذٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْقُدْرَةِ بِمَعْنَى الْعَرْضِ الْمُقَارَنِ تُطْلَقُ عَلَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ تَعَمُّدُ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ.
(قَوْلُهُ: وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ إلَخْ) فَمَعْنَى الْكَسْبِ عِنْدَنَا هُوَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ قُدْرَةً مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ إيقَاعَهُ مِنْهُ وَإِرَادَةً لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقُدْرَةُ مُؤَثِّرَةً فِي فِعْلِهِ وَمَا شَنَّعَ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ إذَا لَمْ تَكُنْ فَتَسْمِيَتُهَا قُدْرَةً مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ إذْ الْقُدْرَةُ صِفَةٌ مُؤَثِّرَةٌ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ وَبِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ اخْتِيَارٌ لَا يَسْتَحِقُّ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا أَجَابَ عَنْهُ أَئِمَّتُنَا بِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ التَّأْثِيرَ بَلْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ الْكَسْبِ فَلَيْسَ التَّأْثِيرُ بِالْفِعْلِ مُعْتَبَرًا فِي مَفْهُومِهَا بَلْ هِيَ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا التَّأْثِيرُ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ سَوَاءٌ أَثَّرَتْ بِالْفِعْلِ أَوْ لَمْ تُؤَثِّرْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ فِي الْأَزَلِ عَلَى إيجَادِ الْعَالَمِ وَلَا تَأْثِيرَ بِالْفِعْلِ فِيهِ وَإِلَّا كَانَ قَدِيمًا وَبِأَنَّ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا يَقْدَحُ فِي أُصُولِ الْأَشْعَرِيِّ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِطَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ بَلْ إنْ أَثَابَ فَبِفَضْلِهِ وَإِنْ عَذَّبَ فَبِعَدْلِهِ وَإِنَّمَا يَقْدَحُ فِي أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ.
(قَوْلُهُ: تَوَسُّطٌ) أَيْ اقْتِصَادٌ فِي الِاعْتِقَادِ بَيْنَ طَرَفَيْ الْإِفْرَاطِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالتَّفْرِيطِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ (قَوْلُهُ: وَهُوَ آلَةٌ مَحْضَةٌ) الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَحَلٌّ لِصُدُورِ الْفِعْلِ عَنْهُ وَقِيَامِهِ بِهِ وَلَيْسَ آلَةً حَقِيقِيَّةً كَالسِّكِّينِ لِلْقَطْعِ وَيَكُونُ الْفِعْلُ وَصْفًا قَائِمًا بِالْعَبْدِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَ الْمُعْتَزِلَةُ لَوْ كَانَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لَهُ تَعَالَى لَصَحَّ إسْنَادُ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَنَحْوِهِمَا إلَيْهِ تَعَالَى وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَكَذَا الْمَلْزُومُ وَجَوَابُهُ مَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ الْمُشْتَقَّاتِ إنَّمَا تُسْنَدُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَامَتْ بِهِ لَا إلَى مَنْ أَوْجَدَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْصَافَ الْجَمَادَاتِ كَالْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وِفَاقًا وَيُمْنَعُ إسْنَادُ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ إلَيْهِ (قَوْلُهُ: فَلَا تُوجَدُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ) يَقْتَضِي أَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute