زَادَ فِي أُخْرَى «إنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ أَيْ مِنْ أَجْلِي» وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ كَالْغِيبَةِ أَوْ عَمِلَ كَشُرْبِ الْمُسْكِرِ انْضَمَّ إلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِذَلِكَ مُؤَاخَذَةُ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْهَمِّ بِهِ.
(وَإِنْ لَمْ تُطِعْكَ) النَّفْسُ (الْأَمَّارَةُ) بِالسُّوءِ عَلَى اجْتِنَابِ فِعْلِ الْخَاطِرِ الْمَذْكُورِ لِحُبِّهَا بِالطَّبْعِ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ الشَّهَوَاتِ فَلَا تَبْدُو لَهَا شَهْوَةٌ إلَّا اتَّبَعَتْهَا (فَجَاهِدْهَا) وُجُوبًا لِتُطِيعَك فِي الِاجْتِنَابِ كَمَا تُجَاهِدُ مَنْ يَقْصِدُ اغْتِيَالَكَ بَلْ أَعْظَمُ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِكَ الْهَلَاكَ الْأَبَدِيَّ بِاسْتِدْرَاجِهَا لَكَ مِنْ مَعْصِيَةٍ إلَى أُخْرَى حَتَّى تُوقِعَكَ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ (فَإِنْ فَعَلْتَ) الْخَاطِرَ الْمَذْكُورَ لِغَلَبَةِ الْأَمَّارَةِ عَلَيْكَ (فَتُبْ) عَلَى الْفَوْرِ وُجُوبًا لِيَرْتَفِعَ عَنْكَ إثْمُ فِعْلِهِ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِقَبُولِهَا فَضْلًا مِنْهُ وَمِمَّا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْإِقْلَاعُ كَمَا سَيَأْتِي
ــ
[حاشية العطار]
فَعُلِمَ أَنَّ مَا يَجْرِي فِي النَّفْسِ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ الْأُولَى الْهَاجِسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُلْقَى فِيهَا الثَّانِيَةُ الْخَاطِرُ وَهُوَ مَا يَتَرَدَّدُ فِيهَا وَيَجُولُ الثَّالِثَةُ حَدِيثُ النَّفْسِ وَهُوَ التَّرَدُّدُ أَيْ يَفْعَلُ أَوْ لَا يَفْعَلُ الرَّابِعَةُ الْهَمُّ وَهُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ لَا مُؤَاخَذَةَ فِيهَا.
وَالْخَامِسَةُ: الْعَزْمُ وَهُوَ الْجَزْمُ بِقَصْدِ الْفِعْلِ وَيَقَعُ بِهِ الْمُؤَاخَذَةُ وَالثَّوَابُ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» (قَوْلُهُ: حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا) بِالرَّفْعِ أَوْ النَّصْبِ فَاعِلٌ أَوْ مَفْعُولٌ.
(قَوْلُهُ: وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ إلَخْ) سُكُوتُهُ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ يُشْعِرُ بِاعْتِمَادِهِ لَهَا وَقَدْ يُقَالُ: الْمُعْتَمَدُ خِلَافُهَا لِخَبَرِ «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ فَإِذَا هَمَّ وَفَعَلَ كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» وَهِيَ الْعَمَلُ الْمَهْمُومُ بِهِ وَيُجَابُ بِأَنَّ كَتْبَ الْمَهْمُومِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً لَا يَنْفِي كَتْبَ الْهَمِّ أَوْ نَحْوِهِ سَيِّئَةً أُخْرَى فَيُؤْخَذُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُصَنِّفَ رَجَّحَهُ فِي مَنْعِ الْمَوَانِعِ مُخَالِفًا لِوَالِدِهِ فِيهِ قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ.
(قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ تُطِعْكَ) ضَمَّنَهُ مَعْنَى تُوَافِقُكَ فَعَدَّاهُ بِعَلَى حَيْثُ قَالَ عَلَى اجْتِنَابِ (قَوْلُهُ: فَجَاهِدْهَا وُجُوبًا) قَدْ يُقَالُ هَلَّا قَالَ أَوْ نَدْبًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَاطِرَ الْمَذْكُورَ قَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَافَ الْأَوْلَى وَكَانَ وَجْهُ التَّقْيِيدِ بِالْوُجُوبِ أَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ مَغْفُورَانِ لِأَنَّ الْغُفْرَانَ إنَّمَا يُنَاسِبُ الْوَاجِبَاتِ إذْ لَا مُؤَاخَذَةَ بِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ التَّعْمِيمُ فِي الْغُفْرَانِ وَالْمُؤَاخَذَاتِ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ. سم.
ثُمَّ إنَّ أَصْلَ الْمُجَاهَدَةِ وَمِلَاكَهَا وَظُلْمَ النَّفْسِ عَلَى الْمَأْلُوفَاتِ وَحَمْلَهَا عَلَى خِلَافِ هَوَاهَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ وَلِلنَّفْسِ صِفَتَانِ انْهِمَاكٌ فِي الشَّهَوَاتِ وَامْتِنَاعٌ عَنْ الطَّاعَاتِ فَإِذَا جَمَحَتْ عِنْدَ رُكُوبِ الْهَوَى يَجِبُ أَنْ يُلْجِمَهَا بِلِجَامِ التَّقْوَى وَإِنْ حَرَنَتْ عِنْدَ الْقِيَامِ بِالْمُوَافَقَاتِ يَجِبُ سَوْقُهَا عَلَى خِلَافِ الْهَوَى وَمِنْ غَوَامِضِ آفَاتِهَا رُكُونُهَا إلَى اسْتِحْلَاءِ الْمَدْحِ وَأَشَدُّ إحْكَامِهَا وَأَصْعَبُهَا تَوَهُّمُهَا أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا حَسَنٌ وَأَنَّ لَهَا اسْتِحْقَاقَ قَدْرٍ قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْخَيْرِيُّ لَا يَرَى أَحَدٌ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَهُوَ يَسْتَحْسِنُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَرَى عُيُوبَ نَفْسِهِ مَنْ يَتَّهِمُهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ قَالَ رَأَيْتُ رَبِّي فِي الْمَنَامِ فَقُلْت كَيْفَ أُحِبُّكَ فَقَالَ فَارِقْ نَفْسَكَ وَتَعَالَ وَفِي مُخْتَصَرِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْخٌ أَنْ يَعْمَلَ بِهَذِهِ التِّسْعَةِ أُمُورٍ حَتَّى يَجِدَ الشَّيْخَ وَهِيَ الْجُوعُ وَالسَّهَرُ وَالصَّمْتُ وَالْعُزْلَةُ وَالصِّدْقُ وَالصَّبْرُ وَالتَّوَكُّلُ وَالْعَزِيمَةُ وَالْيَقِينُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تِسْعَةً لِأَنَّ بَسَائِطَ الْأَعْدَادِ وَالْأَفْلَاكِ أَيْضًا تِسْعَةٌ وَلَهَا حِكْمَةٌ إلَهِيَّةٌ يَعْرِفُهَا أَهْلُ اللَّهِ.
(قَوْلُهُ: فَتُبْ عَلَى الْفَوْرِ) فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَفِي الْحَدِيثِ «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إنَّ الْعَبْدَ إذَا تَفَكَّرَ فِي قَلْبِهِ سُوءَ مَا يَصْنَعُهُ وَأَبْصَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيحِ الْأَفْعَالِ سَنَحَ فِي قَلْبِهِ إرَادَةُ التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ قَبِيحِ الْمُعَامَلَةِ فَيَمُدُّهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ بِتَصْحِيحِ الْعَزِيمَةِ وَالتَّأَهُّبِ لِأَسْبَابِ التَّوْبَةِ قَالَ الْجُنَيْدُ دَخَلَ عَلَيَّ السَّرِيُّ يَوْمًا فَرَأَيْتُهُ مُتَغَيِّرًا فَقُلْت لَهُ مَا لَك فَقَالَ دَخَلْتُ عَلَى شَابٍّ فَسَأَلَنِي عَنْ التَّوْبَةِ فَقُلْتُ لَهُ أَنْ لَا تَنْسَى ذَنْبَكَ فَعَارَضَنِي وَقَالَ بَلْ التَّوْبَةُ أَنْ تَنْسَى ذَنْبَكَ، فَقُلْتُ لَهُ إنَّ الْأَمْرَ عِنْدِي مَا قَالَهُ الشَّابُّ فَقَالَ لِمَ؟ فَقُلْتُ إذَا كُنْتُ فِي حَالِ الْجَفَا فَنَقَلَنِي إلَى حَالِ الْوَفَا فَذِكْرُ الْجَافِي حَالَ الصَّفَا جَفَا