الْأَبِيَّةِ) أَيْ الَّتِي تَأْبَى إلَّا الْعُلُوَّ الْأُخْرَوِيَّ (يَرْبَأُ بِهَا) أَيْ يَرْفَعُهَا بِالْمُجَاهَدَةِ (عَنْ سَفْسَافِ الْأُمُورِ) أَيْ دَنِيئِهَا مِنْ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ كَالْكِبْرِ وَالْغَضَبِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَقِلَّةِ الِاحْتِمَالِ (وَيَجْنَحُ) بِهَا (إلَى مَعَالِيهَا) مِنْ الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ كَالتَّوَاضُعِ وَالصَّبْرِ وَسَلَامَةِ الْبَاطِنِ وَالزُّهْدِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَكَثْرَةِ الِاحْتِمَالِ فَهُوَ عَلَى الْهِمَّةِ وَسَيَأْتِي دَنِيئُهَا وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ (وَمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ) بِمَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ (تَصَوَّرَ تَبْعِيدَهُ) لِعَبْدِهِ بِإِضْلَالِهِ (وَتَقْرِيبَهُ)
ــ
[حاشية العطار]
وَظِيفَةُ الْوَقْتِ كَصَلَاةٍ ضَاقَ وَقْتُهَا فَتَقَدَّمَ الْحَادِيَ عَشَرَ.
قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ الشَّكُّ وَرَدَ بِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ زَوَالُهُ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَرْدِيدَ الْفِكْرِ فَيُؤَوَّلُ لِلنَّظَرِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ عَنْ مَعْنَى الشَّكِّ فَتَأَمَّلْهُ قَالَ الدَّوَانِيُّ وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّهُ كَانَ النِّزَاعُ فِي أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَيَحْتَمِلُ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ وَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِي أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمُكَلَّفِ مُطْلَقًا فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَافِرَ مُكَلَّفٌ أَوَّلًا بِالْإِقْرَارِ فَأَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِ هُوَ ذَلِكَ وَلَا يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ. اهـ. وَفِي حَاشِيَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ الرَّازِيّ إنْ أُرِيدَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَهُوَ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا مَقْدُورَةً وَإِنْ أُرِيدَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ كَيْفَ كَانَتْ فَهُوَ الْقَصْدُ اهـ.
وَتَعَقَّبَ هَذَا الْقَوْلَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ وَوُجُوبُهَا إنَّمَا يَتِمُّ فِي السَّبَبِ الْمُسْتَلْزِمِ دُونَ غَيْرِهِ. اهـ.
وَرَدَّهُ الدَّوَانِيُّ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّبَبِ الْمُسْتَلْزِمِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ إيجَابَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ بَدِيهَةً اهـ.
(قَوْلُهُ: الْأَبِيَّةِ) أَيْ الْآبِيَةِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِأَنَّ أَصْلَهُ أَبِيئَةٌ (قَوْلُهُ: الَّتِي تَأْبَى) أَيْ لَا تُرِيدُ فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ (قَوْلُهُ: أَيْ يَرْفَعُهَا) أَشَارَ إلَى أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْمَعْنَى يَرْبَؤُهَا أَيْ يَجْعَلُهَا مُرْتَفِعَةً فَلَيْسَتْ لِلسَّبَبِيَّةِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِسَبَبِهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُهَا.
(قَوْلُهُ: عَنْ سَفْسَافِ الْأُمُورِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُضَاعَفَ وَهُوَ مَا كَانَتْ فَاؤُهُ وَلَامُهُ الْأُولَى مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَيْنُهُ وَلَامُهُ الثَّانِيَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَزِلْزَالٍ وَقَعْقَاعٍ يَجُوزُ فَتْحُ أَوَّلِهِ وَكَسْرُهُ وَالْكَسْرُ هُوَ الْأَصْلُ.
(قَوْلُهُ: كَالْكِبْرِ) وَهُوَ دَاءٌ عَظِيمٌ مَوْقِعٌ فِي تَعَبٍ شَدِيدٍ وَمُوجِبٌ لِنُفْرَةِ الْقُلُوبِ عَنْ صَاحِبِهِ وَلِذَلِكَ قِيلَ لَيْسَ الْمُتَكَبِّرُ صَدِيقًا لِأَنَّهُ يَرْتَفِعُ عَلَى الْخَلْقِ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَيُسْتَثْقَلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيُمَجُّ وَيُبْغَضُ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ.
وَالْكِبْرُ إظْهَارُ الشَّخْصِ عِظَمَ نَفْسِهِ وَشَأْنِهِ. وَالْغَضَبُ ثَوَرَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِإِرَادَةِ الِانْتِقَامِ. وَالْحِقْدُ كِتْمَانُ الْعَدَوَاةِ بَاطِنًا مَعَ انْتِظَارِ الْفُرْصَةِ فِي الْإِهْلَاكِ وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ حَقُودًا إلَّا وَهُوَ مُصَغَّرُ الْوَجْهِ وَعِلَّتُهُ الطَّبِيعِيَّةِ أَنَّ دَمَ الْقَلْبِ الثَّائِرِ عِنْدَ الْغَضَبِ لَمْ يَبْرُزْ إلَى سَطْحِ الْجِلْدِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْبَطْشِ فَيَنْحَبِسُ فِي الْقَلْبِ وَلَا يَبْرُزُ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ يَحْقِدُ الضَّعِيفُ لِأَنَّ الْقَوِيَّ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِقَامِ فَوْرًا وَالْحَسَدُ تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ غَيْرِهِ وَفِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ فِي جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ مَا لَا يَخْفَى كَأَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ لِلَّهِ حُكْمَهُ مَعَ دَوَامِ غَضَبِهِ وَقَهْرِهِ بِمَا يَرَى مِنْ آثَارِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْمَحْسُودِ (قَوْلُهُ: وَسُوءِ الْخُلُقِ) هُوَ وَصْفٌ جَامِعٌ لِمَذَامَّ كَثِيرَةٍ (قَوْلُهُ: وَقِلَّةُ الِاحْتِمَالِ) هُوَ عَدَمُ الصَّبْرِ (قَوْلُهُ: بِمَا يُعْرَفُ بِهِ) أَيْ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَزَّهَهُ سُبْحَانَهُ عَنْ شَوَائِبِ النَّقْصِ لَا مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ سُبْحَانَكَ مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ (قَوْلُهُ: تَبْعِيدُهُ وَتَقْرِيبُهُ) كِلَاهُمَا مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ لِفَاعِلِهِ وَلَامُ لِعَبْدِهِ لِلتَّقْوِيَةِ وَبِإِضْلَالِهِ مُتَعَلِّقٌ بِتَبْعِيدٍ وَبِهِدَايَتِهِ بِتَقْرِيبٍ فَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ هُنَا مَعْنَوِيٌّ وَقَوْلُهُ فَأَصْغَى تَفْرِيعٌ عَلَى خَافَ وَرَجَا وَقَوْلُهُ فَارْتَكَبَ تَفْرِيعٌ عَلَى فَأَصْغَى وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ قَرُبَ الْعَبْدُ أَوَّلًا قَرُبَ بِإِيمَانِهِ وَتَصْدِيقِهِ ثُمَّ قَرُبَ بِإِحْسَانِهِ وَتَحْقِيقِهِ وَقَرُبَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مِنْ الْعَبْدِ مَا يَخُصُّهُ الْيَوْمَ بِهِ مِنْ الْعِرْفَانِ وَفِي الْآخِرَةِ