للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِكُلِّ شَيْءٍ امْتِحَانُ اللَّهِ عِبَادَهُ بِالْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فِي الْعُقْبَى، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمِيزَانِ فَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآخِرَةِ مِيزَانٌ حِسِّيٌّ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّهُ مِيزَانٌ حِسِّيٌّ لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ جِسْمٌ هَلْ هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ أَوْ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِيزَانٌ أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِيزَانٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاحِدٌ وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَلِعَظَمَتِهِ، أَوْ أُرِيدَ بِالْجَمْعِ الْمُفْرَدُ وَالصَّنْجُ يَوْمئِذٍ مَثَاقِيلُ الذَّرِّ وَالْخَرْدَلِ تَحْقِيقًا لِتَمَامِ الْعَدْلِ، وَتُطْرَحُ صَحَائِفُ الْحَسَنَاتِ فِي كِفَّةِ النُّورِ فَتَثْقُلُ بِهَا الْمِيزَانُ بِفَضْلِ

ــ

[حاشية العدوي]

بِالْمِيزَانِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَشَارَ لِلثَّانِي بِقَوْلِهِ عَطْفًا عَلَى امْتِحَانٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً إلَخْ.

[قَوْلُهُ: فَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَخْ] سَبَبُ إنْكَارِهِمْ الْمِيزَانَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَعْرَاضٌ إنْ أَمْكَنَ إعَادَتُهَا، لَمْ يَكُنْ وَزْنُهَا؛ وَلِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلَّهِ فَوَزْنُهَا عَبَثٌ، وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، أَنَّ كُتُبَ الْأَعْمَالِ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ فَلَا إشْكَالَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ، لَعَلَّ فِي الْوَزْنِ حِكْمَةٌ لَا نَطَّلِعُ عَلَيْهَا، وَعَدَمُ اطِّلَاعِنَا عَلَى الْحِكْمَةِ لَا يُوجِبُ الْعَبَثَ.

[قَوْلُهُ: بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ] أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَعْدِلُ بَيْنَ خَلْقِهِ فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا، [قَوْلُهُ: كِفَّتَانِ] قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ كِفَّةُ الْمِيزَانِ بِالْكَسْرِ وَالْعَامَّةُ تَفْتَحُهُ.

[قَوْلُهُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ جِسْمٌ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَوْضِعَ لِلضَّمِيرِ، فَكَانَ يَقُولُ: وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا أَيْ أَنَّ السَّلَفَ بَعْدَ أَنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِيزَانٌ حِسِّيٌّ، اخْتَلَفُوا أَهَلْ هُوَ مِيزَانٌ إلَخْ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ جِسْمٌ أَيْ حِسِّيٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا أَظْهَرَ إشَارَةً إلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ الْخَلَفِ التَّابِعِ لِلسَّلَفِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَخْتَلِفُوا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ مَنْ تَبِعَهُمْ فِي هَذَا مِنْ الْخَلَفِ.

[قَوْلُهُ: فَلِعَظَمَتِهِ] بَيَّنَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ قِيلَ كِفَّتَانِ كَأَطْبَاقِ السَّمَاوَاتِ إحْدَاهُمَا مِنْ نُورٍ، وَهِيَ الَّتِي تُوزَنُ فِيهَا الْحَسَنَاتُ وَالْأُخْرَى مِنْ ظُلُمَاتٍ، وَهِيَ الَّتِي تُوزَنُ فِيهَا السَّيِّئَاتُ وَقِيلَ لَوْ وُضِعْت السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي إحْدَاهُمَا لَوَسِعَتْهُنَّ.

[قَوْلُهُ: أَوْ أُرِيدَ بِالْجَمْعِ الْمُفْرَدُ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَيْثُ قُلْنَا فَجَمْعٌ لِعَظَمَتِهِ فَقَدْ أَرَادَ بِالْجَمْعِ الْمُفْرَدَ.

[قَوْلُهُ: وَالصَّنْجُ يَوْمئِذٍ إلَخْ] هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ إحْدَى الْكِفَّتَيْنِ تُوضَعُ فِيهَا الصَّنْجُ وَالْكِفَّةُ الثَّانِيَةُ يُوضَعُ فِيهَا الْمَوْزُونُ مِنْ حَسَنَاتٍ أَوْ مِنْ سَيِّئَاتٍ، [قَوْلُهُ: وَالْخَرْدَلُ] الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ أَيْ إنَّ الْبَعْضَ مَثَاقِيلُ الذَّرِّ، وَالْبَعْضُ مَثَاقِيلُ الْخَرْدَلِ وَالذَّرُّ قَدْ عَرَفْته وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ ارْتَكَبْنَا، جَعَلَ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ يُقَالُ: وَهُوَ الْأَوْلَى إنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّتِهَا جِدًّا فَلَمْ يُرِدْ مِنْ الْكَلَامِ حَقِيقَتَهُ، [قَوْلُهُ: تَحْقِيقًا لِتَمَامِ الْعَدْلِ] أَيْ؛ لِأَنَّ فِي قِلَّةِ الصَّنْجِ وَدِقَّتِهَا، لَا يَتَحَقَّقُ حَيْفٌ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.

[قَوْلُهُ: وَتُطْرَحُ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُنَافِي مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا صَنْجَ؛ لِأَنَّ مُلَخَّصَهُ أَنَّ إحْدَى الْكِفَّتَيْنِ لِلْحَسَنَاتِ، وَالْأُخْرَى لِلسَّيِّئَاتِ.

وَأَجَابَ عج بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الصَّنْجَ فِيمَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ فَقَطْ أَوْ سَيِّئَاتٌ فَقَطْ، وَأَمَّا مَنْ لَهُ الْأَمْرَانِ مَعًا فَإِحْدَاهُمَا فِي كِفَّةٍ وَالْأُخْرَى فِي الْأُخْرَى، فَحِينَئِذٍ لَا تَنَافِي فِي كَلَامِ الشَّارِحِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةٍ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ يَرُدُّهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ أَنَّ النَّاسَ فِي الْآخِرَةِ ثَلَاثُ طِبَاقٍ. مُتَّقُونَ لَا كَبَائِرَ لَهُمْ وَمُخْلِطُونَ، وَهُمْ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ، وَكُفَّارٌ، فَالْمُتَّقُونَ تُوضَعُ حَسَنَاتُهُمْ فِي الْكِفَّةِ النَّيِّرَةِ، وَصَغَائِرُهُمْ إنْ كَانَتْ فِي الْأُخْرَى فَتَثْقُلُ النَّيِّرَةُ وَتَرْتَفِعُ الْمُظْلِمَةُ وَأَمَّا الْمُخْلِطُونَ، فَحَسَنَاتُهُمْ تُجْعَلُ فِي النَّيِّرَةِ وَسَيِّئَاتُهُمْ فِي الْمُظْلِمَةِ فَإِنْ تَسَاوَيَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، وَإِنْ رَجَحَ أَحَدُهُمَا عُمِلَ بِهِ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ أَوْ إلَى النَّارِ. إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُوضَعُ كُفْرُهُ فِي الْمُظْلِمَةِ وَلَا تُوجَدُ لَهُ حَسَنَةٌ تُوضَعُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى وَتَبْقَى فَارِغَةً فَيَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ إلَى النَّارِ اهـ.

أَقُولُ: وَاَلَّذِي يُخْرَجُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ الْقَوِيِّ، وَيُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ أَطْرَافِ كَلَامِهِمْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى أَحْوَالٍ فَالصَّنْجُ فِي حَقِّ أُنَاسٍ وَتَرْكُهَا فِي حَقِّ أُخْرَى وَتَفْوِيضُ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، [قَوْلُهُ: فَتَثْقُلُ بِهَا الْمِيزَانُ] لَا

<<  <  ج: ص:  >  >>