الشُّهَدَاءَ) أَيْ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ جَمْعُ شَهِيدٍ، وَهُوَ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أَيْ فِي جَنَّةِ رَبِّهِمْ (يُرْزَقُونَ) مِثْلُ مَا يُرْزَقُ الْأَحْيَاءُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى " {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: ١٦٩] " سُمُّوا شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ أُحْضِرَتْ دَارَ السَّلَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ. فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ لَا تَصِلُ إلَى الْجَنَّةِ، فَالشَّهِيدُ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ أَيْ الْحَاضِرِ لِلْجَنَّةِ، وَخُصُّوا
ــ
[حاشية العدوي]
عَلَيْهِ.
قَالَهُ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا، مَا وَجْهُ كَوْنِ الْعَقْلِ يَجْعَلُهُ وَاسِطَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ دُونَ أَنْ يَجْعَلُهُ كَافِرًا كَالْخَوَارِجِ أَوْ يَبْقَى مُسْلِمًا كَأَهْلِ السُّنَّةِ.
[قَوْلُهُ: أَيْ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ] تَبِعَ ابْنَ عَطِيَّةَ حَيْثُ قَالَ، وَلَا خَفَاءَ فِي مَوْتِهِمْ وَأَنَّ أَجْسَامَهُمْ فِي التُّرَابِ وَأَرْوَاحَهُمْ كَأَرْوَاحِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا فُضِّلُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرِّزْقِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَتْلِ حَتَّى كَأَنَّ حَيَاةَ الدُّنْيَا دَائِمَةٌ لَهُمْ، إلَّا أَنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ أَجْسَادُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَّ حَيَاتَهُمْ حَقِيقِيَّةٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَكِنَّ حَيَاتَهُمْ لَيْسَ كَحَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَا تَعُودُ إلَيْهَا الْحَيَاةُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَيِّتِ عَلَيْهِ بَلْ حَيَاةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ] بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَدَلُ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ بِمَعْنَى طَاعَةِ اللَّهِ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ [قَوْلُهُ: كَلِمَةُ اللَّهِ] أَيْ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مَأْثَمٍ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُجَاهِدُونَ شَرْعًا قَالَ عج: وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ الْكُفَّارُ وَقَدْ قَاتَلَ لِلْغَنِيمَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا تَكُونُ لَهُ هَذِهِ الْخَصِيصَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَهُ الشَّاذِلِيُّ قَبْلَ هَذَا الْمَحَلِّ اهـ، كَلَامُهُ، أَقُولُ وَبَعْضُهُمْ أَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ قَاتَلَ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ ذَاهِبًا إلَى أَنَّ إرَادَةَ الْغَنِيمَةِ أَوْ الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ لَا تُنَافِي حُصُولَ الشَّهَادَةِ.
[قَوْلُهُ: أَيْ فِي جَنَّةِ رَبِّهِمْ] أَيْ فَلَيْسَتْ الْعِنْدِيَّةُ مُرَادًا مِنْهَا ظَاهِرُهَا. [قَوْلُهُ: يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ] أَيْ فَالْأَرْوَاحُ تَتَلَذَّذُ تَلَذُّذًا جُسْمَانِيًّا كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ، يَجُوزُ أَنْ تُودَعَ الرُّوحُ فِي جَوْفِ طَيْرٍ أَوْ تَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ الطَّيْرِ وَيَصِلُ إلَيْهَا الْغِذَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً فِي جَوْفِهِ إلَى أَنْ قَالَ وَيَكُونُ هَذَا مَخْصُوصًا بِالشُّهَدَاءِ، نَقَلَهُ السُّيُوطِيّ ثُمَّ نَقَلَ السُّيُوطِيّ أَيْضًا مَا نَصُّهُ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَجَّلُ الْأَكْلُ وَالنَّعِيمُ إلَّا لِلشُّهَدَاءِ اهـ.
بَلْ قَالَ الْعَلَّامَةُ الرَّمْلِيُّ فِي فَتَاوِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ بِاعْتِبَارِ الْجِسْمِ، فِيمَا يَظْهَرُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالشُّهَدَاءَ يَأْكُلُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَيَشْرَبُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي نِكَاحِهِمْ نِسَاءَهُمْ وَيُثَابُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَلَا كُلْفَةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَتَلَذَّذُونَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْكَرَامَةِ لَهُمْ، وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ بِذَلِكَ اهـ.
وَفِي السِّرِّ الْمَصُونِ لِسَيِّدِي أَبِي الْمَوَاهِبِ الشَّاذِلِيِّ أَنَّ الشُّهَدَاءَ يَنْكِحُونَ فَإِنَّهُ قَالَ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ الشُّهَدَاءِ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَحَمَلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ حَقِيقَةً، قَائِلُ غَيْرِ هَذَا صَرَفَ الْآيَةَ عَنْ ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تُلْجِئُ إلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ يَنْكِحُونَ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِنِسَائِهِمْ كَمَا قَالَ الرَّمْلِيُّ ذَكَرَهُ عج وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا تَقَدَّمَ مَا تَتَنَعَّمُ بِهِ الشُّهَدَاءُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّمَا يُنَعَّمُ بِغَيْرِ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ بِأَنْ يُمْلَأَ عَلَيْهِ قَبْرُهُ خَضِرًا وَيُفْسَحَ لَهُ فِيهِ كَمَا قَالَ اللَّقَانِيُّ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ إلَخْ] أَيْ أَوْ لِأَنَّهُمْ شَهِدَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ أَوْ لِأَنَّ دَمَهُ يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، [قَوْلُهُ: أَحْضَرْت] أَيْ إلَّا مَنْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَكَانَ لَا يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ قَضَاؤُهُ فَإِنَّ رُوحَهُ تُحْبَسُ عَنْ الْجَنَّةِ، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ اللَّقَانِيِّ.
[قَوْلُهُ: دَارَ السَّلَامِ] أَيْ الْجَنَّةَ سُمِّيَتْ بِهَا لِسَلَامَةِ أَهْلِهَا عَنْ كُلِّ أَلَمٍ وَآفَةٍ وَلِأَنَّ خَزَنَةَ الْجَنَّةِ يَقُولُونَ لِأَهْلِهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ التَّسْمِيَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ خُصُوصَ الْجَنَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِدَارِ السَّلَامِ، وَرُبَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ لَا تَصِلُ إلَى الْجَنَّةِ، نَعَمْ يُسْأَلُ وَيُقَالُ فِي أَيْ جَنَّةٍ مِنْ الْجِنَانِ مَقَرُّهُمْ. [قَوْلُهُ: بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ إلَخْ] لَا