واعتمد عليه وقرّر له جاريًا سنيًا، يصل إليه في رأس كل شهر؛ فاستعفي من ذلك وامتنع امتناعًا شديدًا، واحتج بانه شيخ كبير عاجز عن العمل، فأعفاه عن الولاية، فكان يستدعيه إلي مجلسه، ويسأله عن أشياء من العلم، ويحاضره ويجالسه، ويقبل عليه، ويكرمه، ويجد به أنسًا، ولم يزل في منزله ملازمًا مطالعة الكتب والنسخ والتأليف؛ إلي أن هجوم التتار الملاعين علي إربل، وقصدوها، وتغلبوا عليها، واستكملوا الربض، وقتلوا كلّ من وجدوه به من المقيمين، فالتجأ إلي قلعتها وذلك في شوال سنة أربع وثلاثين وستمائة. فاجتهدوا في انتزاع القلعة. وأخذها فلم يستطيعوا، فقاتلوهم أشدّ قتال، وانتصروا عليهم.
ثم إنهم لما رأوا أنهم لم يقدروا علي أهلها، ولّوا مدبرين عنها، بعد أن قتلوا أهلها قتلًا وسبيًا، وساقوا الأموال والأقمشة، وخرّبوا أسواقها، وأحرقوا دورها؛ فحين تحقق من بالقلعة أنه قد غادر التتار الملاعين_ خذلهم الله تعالى_ انتهزوا الفرصة وتأهبوا إلى أن توجهوا إلى الموصل؛ فأرتحل أبو البركات في جملة من كان متوجها. فسمع به بعض أمراء الموصل يقال له لؤلؤ بن عبد الله البدري؛ فانتدب إليه جمالًا وأبغالًا، تحمل متاعه الذي كان تخلف معه، فدخل الموصل؛ فاستقبله الأمير المذكور بالإكرام الوافر، والتبجيل والحرمة التامة، وأنزله في دار هيئت له برسمه، ونزل بها ورتبّ له جاريًا، ومال إليه بكليته، ولم يكن يصبر عنه.
وقصد رؤساء الموصل زيارته واستبشروا بقدومه، وكل كان يتمني لقاءه كل ذلك؛ فحين استقرّ بها مقامه، وشكر الله تعالى علي ما أنعم عليه بالخلاص، وأنقذه من الهلاك وأيدي الكفرة المشركين الملاعين، وصرف عنه المحذور، وطابت نفسه، جاءه أمر مقدور لم يكن في حسابه؛ بدل فرحه ترحًا، وسروره حزنًا، قبض الأمير لؤلؤ بن عبد الله البدري.
فعند ذلك تضاعفت آلامه، وكثر تأسفه، واستولي عليه الهم، واشتد فكره، وعيل صبره، على مفارقته، وصار في أنكد عيش وأمره فلم يبرح ذا هموم زائدة، وغموم متوافرة؛ إلي أن ناداه الحي القيوم، وفاجأه الأجل المحتوم، وأصابته عين الكمال، واخترمته ريب المنون، ولم ينفعه يومئذ لا مال ولا بنون.