للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًا) جوابه الحكيم إظهاراً للتعطف والرأفة، وإبداءً للرقة والرحمة، كأنه عليه السلام ما التفت إلى جفائه وغلظته بناءً على ما وصفه الله تعالى: (إنَّ إبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: ١١٤]، ولما لم يكن عارفاً بما يؤول إليه حال أبيه من الإصرار على الكفر، وأنه ممن لا يؤمن البتة، وفى بالوعد وقال: (واغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء: ٨٦]، كأنه قال: أخرجه من الضلال واغفر له (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ) [التوبة: ١١٤]، أي: مصرٌّ على الضلالة والكفر، ترك الدعاء وتبرأ منه.

فظهر من هذا أن استغفاره إنما لم يكن مستنكراً؛ لأنه عليه السلام لم يكن عالماً بإصراره على الكفر، لقوله تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ) [التوبة: ١١٤]، بخلافه في تلك الصورة، فإنه تبين للمؤمنين أنهم أعداء الله بقوله: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة: ١] وأن لا مجال لإظهار المودة بوجهٍ ما.

ثم بالغ في تفصيل عداوتهم بقوله تعالى: (إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة: ٢]، ثم حرضهم على قطيعة الأرحام بقوله: (لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ) [الممتحنة: ٣]، ثم سلاهم بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه السلام وقومه بقوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ … ) إلى قوله: (إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة: ٤]، فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله هذا المقام، كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع، يعني: لكم التأسي بإبراهيم مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير، فلا تجاملوهم ولا تبدوا لهم بالرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم لأبيه في قوله: (لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)؛ لأنه لم يتبين له حينئذٍ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم لكم. فظهر من هذا البيان أن لابد للمفسر من تعيين المقام والنظر إلى ترتيب النظام، لئلا يدحض في مزال الأقدام، والحمد لله الذي هدانا لهذا.

<<  <  ج: ص:  >  >>