الدلالة على الطريق السوي، فلا تستنكف، وهب أنى وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعنى أنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه: بأن الشيطان - الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوّك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزى ونكال وعدوّ أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم - هو الذي ورّطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك، فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذرّيته كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه.
قوله:(استعصى على ربك) أبلغ من ((عصى))، لمعنى الطلب فيه.
قوله:(لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه) لعله يريد أن قوله: (إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًا) من باب التلميح، وهو أن يشار في الكلام إلى نحو قصةٍ، وهي ما ذكره الله تعالى في قوله:(وإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي)[الكهف: ٥٠] من استعصاء اللعين على الله، وأنه عدوٌّ لبني آدم، فآثر خليل الله ما هو مختصٌّ بالله على ما يختص بالغير، لأنه أهم شيءٍ عنده، ومنه قوله تعالى:(قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)[الأنعام: ٣٣]، قال المصنف:((إن تكذيبك أمرٌ راجعٌ إلى الله فاله عن حزنك لنفسك، وأنهم كذبوك وأنت صادقٌ، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم، وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه)).
قوله:(كأن النظر في عظم ما ارتكب [من ذلك] غمر فكره) أي: لم يلتفت إلى ما هو في غير ما هو في جنب الله، وهو عداوته لآدم، وقد يعرض للمتكلم وهو في أثناء كلامه ما يذهله عن بعض ما هو فيه، فيأخذ في الأهم.